قصة قصيرة / يوما ما سأذكرك!

1 يناير 1970 10:56 ص
| سوزان الطيب |
تحت شمس متقلبة المزاج فأحيانا حنونة وأحيانا قاسية وفي أوقات أخرى لا تشرق أصلا... تحت سماء تئن وتصرخ مما تراه يحدث تحتها... وفوق أرض تغلي وتنتفض من كثرة مظالم أقدام تطأها، كان يقف على ارتفاع قليل منها متكئا على احدى السيارات الفارهة التي لم تطأها قدمه يوما وقد لا تطأها أبدا... كانت معه أدوات عمله وهي بعض علب معطرات السيارات وبعض كلمات الاستعطاف التي هي أشبه بكلمات تسول يستدر بها عطف وأموال كل من يراه في الموقف... كان الصغير في بداية العقد الثاني من عمره، حين استيقظ اليوم لم يشرب حليبا قدمته له أم حنون، بعد أن طبعت على رأسه قبلة وهي توقظه... حين استيقظ لم يجد زي المدرسة مغسولا ومكويا بيد عطوف وأنفاس دافئة... حين استيقظ لم يكن قد وضع كتبه في حقيبته وأسرع يودع أمه ونسي سندوتشه، فركضت خلفه تلهث تناديه وتضعه في حقيبته ثم تقول الحمد لله لحقت بك... في طريقه لم يكن يسرع الخطى كي يلقى أترابه وآماله وطموحاته حيث مدرسته... لم يكن كل ذلك... كان ابعد ما يكون عن هذا كان يكد ويشقى في عمر الفرحة... كان الوجه غريب فلقد مزقت مصاعب العيش بأظفارها وجه الطفولة تاركة وجه مسخ لا هو طفل ولا هو رجل سكنته ظلمة ليل مثقل بالهموم... غربت عنه براءته وحل محلها الدهاء والمكر والتحايل لكسب المال... فالمقاييس هنا مختلفة والقيم مشوهة... والبطولة لها معايير أخرى فالأذكى والأفضل هنا ليس من يحصل على الدرجات النهائية ولا من يحصل بحثه على أفضل بحث ولا من يحقق بطولة رياضية وليس من يكسب جائزة شعرية أو موسيقية... بل الأفضل هو من يستطيع ان يحصل على المال من المارة بأي طريقة حتى ولو بالتسول فيظل يطاردهم ويلح عليهم بكلمات يلين لها الصخر فاما أن يلين واما ان يمل فيخرج له ما يريد دون ان يأخذوا بضاعته... كنت أرى السعادة وعلامات الانتصار بعد أن يأخذ المال ثم ينظر الى أقرانه ممن امتهنوا نفس المهنة... كأنه يتباهى بقدراته وذكائه وتفوقه... لكن هذه المرة كان الأمر مختلفاً... فلقد كنت أجلس داخل السيارة أراقب الفتى وهو يزهو بانتصاراته ومهاراته الى ان سقط من على صهوة جواده مهزوما... فحين كان يعرض سلعته كالعادة بخفة وروعة في أداء الدور أمام فتاتين تتقاطر منهما علامات الثراء فتجاهلتاه وذهبتا مسرعتين كأنه غير موجود... لكنه لم يكترث فلقد اعتاد التجاهل... اعتاد الشعور بأنه لا شيء فلم يعد الأمر يعنيه أو يجرحه وخلال لحظات اقتربت منه سيدة مسنة فبدا عرضه المميز أمامها... عرضا يصهر القلوب المتحجرة فكيف برقيقها فأشفقت عليه العجوز شفقة زائدة لدرجة الألم... سألته برحمة قاسية... انت صبي وتعمل الآن في وقت المدرسة ألا تتعلم كمن هم في مثل عمرك «حرام كده»... لماذا لا تذهب الى المدرسة...؟ ولأول مرة تركها وبعد ان أعطاها ظهره وضع وجهه في الأرض ثم رفع رأسه الى السماء بوجه عبوس... كان السكين تلما والجرح غائراً اعتصر قلبي وتألمت لما رأيت وسمعت فلقد كانت المرة الأولى التي أرى فيها الشاطر حسن... مهزوما ومجروحا وقد أوشك على السقوط، ولأول مرة أراه مكترثا لشيء من كنا نظنه بلا مشاعر هناك ما يزعجه نعم فلكل منا نقطة تزعجه، لا أدري ما الذي دفعني لأتحرك... فترجلت وسرت نحوه متظاهرة بأني أود شراء بضاعته.
قلت له بعد ان أمسكت بها: أليست أغلى من سعرها الأصلي.
قال بضيق لا انها ليست كذلك... وبدأ يحاول استعطافي لكن ليس بمهارة كل مرة.
قلت مازحةً: لا تتعجل الثراء فسوف تصبح يوما ما ثريا بمشيئة الله
نظر لي بدهشة شديدة ورغبة في سماع المزيد
قلت: هل سمعت يوما عن شخص يدعى أوناسيس...
أعاد النظر لي بتعجب وكأني من عالم آخر ثم أجاب بضيق لا لم أسمع عنه...
قلت: انه أغنى رجل في العالم... هل تعلم كيف كان وهو في مثل عمرك... لم يكن أحسن منك حالا... لم يتمكن من الالتحاق بالمدرسة ولم يكن يملك حتى قوت يومه... بدأ حياته بجمع أعقاب السجائر من الشوارع... الى أن أصبح امبراطور امبراطورية المال... احتكر صناعة التبغ في العالم... كان الأهم والأقوى... والأكثر ثراءً... لكن ما وصل اليه لم يكن بما تفعل... كان فقط بالعمل واستثمار مواهبه وقدراته... لا تحزن يا ولدي فالمستقبل لا يعلمه الا الله وحده... والعلم ليس فقط داخل أسوار المدارس... فلكل منا مقومات نجاح خصه الله بها... لكن عليك فقط البحث عنها داخلك ثم توظيفها كي تصل الى هدفك... فكر فيما قلته لك وستصل يوما ما...
نظر إليّ عبر هاتين العينين اللتين تشع ذكاءً، ثم تركني ورحل وبعد ان مشى خطوتين عاد ثم قال... يوماً ما سأذكرك!