تعكس تصريحات دونالد ترامب في أول يوم له في منصبه، مزيجاً محسوباً من الرسائل السياسية والغموض الاستراتيجي ويعبر عن موقف إدارته من الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني.
إذ تكشف تصريحاته ـ «هذه ليست حربنا»، و«لست واثقاً من أن وقف إطلاق النار سيستمر»، و«معظم الناس قُتلوا (في غزة)» ـ عن طبقات متعددة من النوايا.
إن تأكيد ترامب على أن «الحل ليس إنشاء دولتين» وأن الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني «ليس حربنا»، يشير إلى محاولة متعمدة لإبعاد الولايات المتحدة عن المسؤولية المباشرة عن الأعمال العدائية المستمرة بين إسرائيل و«حماس».
ومن المرجح أن يروق هذا الخطاب لقاعدته الانتخابية الانعزالية، مؤكداً على إعطاء الأولوية للمصالح الاميركية على التشابكات الخارجية. إن مثل هذه الرسائل تتوافق مع موقف ترامب المميز «أميركا أولاً»، وهو استمرار لأهدافه الأوسع في السياسة الخارجية خلال ولايته الأولى.
تصريحات ترامب
* هل أنت واثق من أن وقف إطلاق النار في غزة سيصمد؟
- أنا لست واثقاً. هذه ليست حربنا، إنها حربهم، لكنني لست واثقاً... غزة مثل موقع هدم هائل... يجب إعادة بنائها بطريقة مختلفة حقاً.
* هل تخطط للمساعدة في إعادة بناء غزة؟
- ربما. كما تعلمون، غزة مثيرة للاهتمام. إنها موقع رائع. على البحر، والطقس هو الأفضل. كما تعلمون، كل شيء على ما يرام، يبدو الأمر وكأن بعض الأشياء الجميلة يمكن القيام بها... يمكن القيام ببعض الأشياء الرائعة مع غزة.
دعم ترامب لإسرائيل: سرد مُدار بعناية
رغم تأطير الصراع على أنه خارج مسؤولية الولايات المتحدة، فإن خطاب ترامب لا يشير إلى انخفاض الدعم لإسرائيل.
فلا تزال الولايات المتحدة حليفاً مهماً، كما يتضح من شحنات الأسلحة الكبيرة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وقرار ترامب برفع الحظر المفروض على القنابل التي تزن 2000 رطل لإسرائيل منذ يومه الأول في منصبه، دليل على استمرار الدعم.
ومن خلال تقديم الحرب على أنها «ليست مسؤوليتنا»، يهدف ترامب إلى الحد من الانتقادات المحلية لتورط الولايات المتحدة، وخاصة بين الناخبين المنتقدين للتدخلات الأجنبية، وفي الوقت نفسه تعزيز الموقف الثابت المؤيد لإسرائيل الذي يعتز به المسيحيون الإنجيليون والقاعدة المحافظة ضمن الإدارة الجديدة.
إن الطبيعة المرحلية للاتفاق، مع افتقاره إلى جداول زمنية ملموسة لإعادة الإعمار، أو تبادل الأسرى، أو المصالحة السياسية، أو حتى الانسحاب الكامل، تترك مجالاً كبيراً للتصعيد المحتمل.
وتسمح له تصريحاته بالتحوط إستراتيجياً، ما يترك مساحة لمواءمة نفسه مع النتائج في حالة انهيار وقف إطلاق النار. كما يسمح هذا التحوط ضمناً لإسرائيل باستئناف العمليات العسكرية ضد حماس بحجة الدفاع عن النفس - وهو الموقف الذي أيده ترامب تاريخياً بشكل لا لبس فيه.
ربط تصريحات ترامب برؤية كوشنر
إن تعليقات ترامب على غزة - واصفاً إياها بأنها منطقة ذات «طقس لطيف» و«فرص محتملة» - ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالرؤية التي تبناها صهره جاريد كوشنر أثناء الكشف عن «صفقة القرن».
إن تأطير كوشنر المثير للجدل لغزة كمركز محتمل لتطوير العقارات الفاخرة، إلى جانب اقتراحات نقل سكانها إلى صحراء النقب، يعكس منظوراً لتعقيد الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، تعطي الأولوية للحوافز الاقتصادية على الحلول السياسية، وتهمش السيادة الفلسطينية وحقائق الحياة تحت الحصار، وتصور غزة كسلعة وليس وطناً.
وقف النار الهش في ظل حسابات نتنياهو
لقد صاغ نتنياهو وقف إطلاق النار باعتباره «موقتاً»، مشروطاً بتدمير القدرات العسكرية والحكمية لحماس، وتطميناته لحلفائه المتشددين، بما في ذلك وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، تؤكد على التوازن الهش الذي يجب أن يحافظ عليه.
إذ أصدر سموتريتش شرطين واضحين لدعمه لحكومة نتنياهو: «يجب أن تستعيد الحرب زخمها، ويجب ألا تظل حماس في السلطة».
تعكس هذه المطالب انقسامات عميقة داخل الائتلاف اليميني المتطرف في إسرائيل، الذي ينظر إلى وقف إطلاق النار باعتباره تنازلاً لحماس.
من خلال ربط نجاح وقف إطلاق النار بإزالة الحركة، يقدم سموتريتش تناقضاً سياسياً مهماً، وتأكيد نتنياهو على أن إسرائيل «تحتفظ بالحق في استئناف الحرب» إذا انتهكت حماس الاتفاق يعزز هذا الهشاشة. فالطبيعة المرحلية لاتفاق وقف النار، من دون جداول زمنية واضحة أو آليات لإعادة إعمار غزة، تضيف طبقة أخرى من عدم اليقين.
ومن المرجح أن تربط الدول المانحة، سواء من الشرق الأوسط أو الغرب، شروطاً سياسية بالمساعدات.
وتواجه حماس ضغوطاً متزايدة لتقاسم أو التخلي عن الحكم للسلطة الفلسطينية، وهي الخطوة التي أصبحت خياراً غير مستحيل، ويصور بأنه قد يوفر لإسرائيل ذريعة لتجديد الأعمال العدائية. تالياً، فإن غياب خطة شاملة للحكم المستقبلي في غزة يجعل المنطقة عرضة لدورات متكررة من العنف، والتي تتفاقم بسبب المظالم والافتقار إلى حق تقرير المصير الفلسطيني.
قرار ترامب: عكس السياسة مع آثار واسعة النطاق
في تحول سياسي كبير، رفع ترامب العقوبات التي فرضتها إدارة بايدن على الجماعات والأفراد الإسرائيليين اليمينيين المتطرفين المتهمين بأعمال عنف، بما في ذلك الحرق العمد وتدمير الممتلكات والاعتداءات ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
من خلال أمر تنفيذي، ألغى ترامب الأمر التنفيذي 14115، الذي استهدف المستوطنين المتهمين بالعنف ضد الفلسطينيين والناشطين الإسرائيليين.
وقد فرضت هذه العقوبات، التي تم تنفيذها في عهد بايدن، عقوبات على 33 فرداً وكياناً في إسرائيل اعتباراً من ديسمبر 2024، بهدف ردع العنف المتصاعد والإشارة إلى استنكار الولايات المتحدة للأنشطة المتطرفة التي تقوض جهود السلام.
من خلال إلغاء هذه التدابير، يعزز ترامب تحالف إدارته مع الفصائل الإسرائيلية المتشددة، ما يعزز بشكل أكبر تصور الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل.
يتماشى هذا القرار بسلاسة مع سياساته الأوسع المؤيدة لإسرائيل خلال رئاسته السابقة، والتي أعطت الأولوية باستمرار للأهداف الإقليمية والأمنية الإسرائيلية على جهود بناء السلام الأوسع.
وشملت هذه الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، ودعم السيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، وقطع المساعدات عن الفلسطينيين وتقليص التمويل للوكالات التابعة للأمم المتحدة التي تساعد اللاجئين الفلسطينيين.
في حين أشادت الفصائل الإسرائيلية المتشددة وقادة المستوطنين بهذه الخطوة باعتبارها تزيل «التدخل غير العادل»، يقول المنتقدون إنها تشجع جماعات المستوطنين المتهمة بالعنف، ما يؤدي إلى تصعيد التوترات في الضفة الغربية.
لكن في الوقت نفسه، فإن هذا القرار ينفر الجهات الفاعلة الدولية، مثل مسؤولي الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، الذين انتقدوا الولايات المتحدة لتقويضها للجهود العالمية الرامية إلى تعزيز حل الدولتين.
وفي إسرائيل، احتفلت الفصائل السياسية اليمينية المتطرفة وزعماء المستوطنين بقرار ترامب، الذين زعموا أن العقوبات تستهدف بشكل غير عادل المجتمعات اليهودية الشرعية.
ورحبت حكومة نتنياهو، التي تعتمد على دعم الجماعات المستوطنة المتشددة، بالتحول في السياسة باعتباره تأكيداً على دعم الولايات المتحدة.
وعلى العكس من ذلك، أعربت الجهات الفاعلة الدولية، بما في ذلك مسؤولي الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، عن قلقها إزاء هذه الخطوة. وحذروا من أنها تقوض الجهود العالمية للحد من العنف في الضفة وتعزيز حل الدولتين. ورأى المنتقدون أن هذه الخطوة «تهدد السلام والاستقرار في المنطقة».
إن قرار ترامب بإلغاء العقوبات كان بمثابة خروج عن التوازن الذي حاولت الإدارات السابقة تحقيقه جزئياً بين دعم إسرائيل واحترام الحقوق الفلسطينية.
مسار محفوف بالمخاطر إلى الأمام
إن خطاب نتنياهو المدروس ودعم ترامب الغامض يعكسان تعقيدات الديناميكيات السياسية والإستراتيجية لوقف إطلاق النار.
وفي حين توفر الهدنة ايقاف الأعمال القتالية موقتاً، فإن نجاحها على المدى الطويل يتوقف على معالجة التحديات البنيوية التي تديم الصراع. وفي غياب آليات واضحة لإعادة الإعمار وتبادل الأسرى والحكم، فإن وقف إطلاق النار يخاطر بأن يصبح بمثابة توقف آخر في دورة متكررة من العنف.
بالنسبة لسكان غزة، فإن الفوائد المباشرة المترتبة على انخفاض الأعمال العدائية يطغى عليها التهميش والاحتلال المستمران.
وبينما يتنقل نتنياهو عبر الضغوط السياسية ويضع ترامب نفسه في موقف يسمح له بالتأثير في المستقبل، فإن مسار المنطقة نحو السلام يظل محفوفاً بالعقبات.
وسواء كانت هذه الهدنة الهشة تشير إلى نقطة تحول أو مجرد توقف موقت، فسيعتمد على استعداد كل الأطراف لمعالجة الأسباب الجذرية للصراع والمضي قدماً إلى ما هو أبعد من النهج المعاملاتي نحو السلام الدائم.