فهد توفيق الهندال / فاصلة / بلاغة الشهادة وشهادة البلاغة

1 يناير 1970 05:08 ص

من أهم ما يستفاد من مناسبة عاشوراء المؤلمة، هي تلك المآثر الكريمة التي حملتها الأيام والسنوات والقرون لأجيال متعاقبة من المؤمنين بحتمية انتصار الحق على الباطل. فلو كثرت جولات الظلام المضللة لأذهان الأنام في تاريخ هذه الدنيا، وحده الإنسان ذو الوعي المستنير، من يقيم للعقل موازينه ويستظل بأحكامه في محاسبة التاريخ وشخصياته التي انعطفت به إلى أشد منحدراته الخطيرة، أو وضعت الضمير بين مفترق طريقين، لا يفرق بين حقهما ونقيـــــضــــه، إلا من تمــــكن الإيمان الراسخ من قلبه، والمنطق الواعي من عقله وفكره. وهذا لن يتم إلا بـــــــمــــزيد من الاســـــتبصـــــار وقـــراءة الحــــــدث بكـــــل تجـــــرد وانعتاق من التعصب والتعاطف الأعميين.

ومسيرة كربلاء، تمضي في موكبها الخالد على مدى أربعة عشر قرناً، فقد استبقت نبوءة الفاجعة موعدها بأعوام عدة، عندما أخبر النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل بيته في أكثر من مناسبة وثابت في عدد من المصادر، بأن أمته ستقتل ولده الحسين. فعندما تأتي النبوءة من سيد الخلق أجمعين، فلا مجال للشك بها، لكونها من خاتم الرسل وشفيع العالمين في الآخرة، وهو من عانى من ويلات المشركين وتخاذل المنافقين طوال بعثته وحياته الشريفة، فكيف لا يرث ذلك منه ابن بنته، وهو من تربى في بيته ونهل من علمه في الدين والدنيا. وهو ما تبرهن عليه تلك الوصية البليغة من سيد الشهداء لأخيه محمد بن الحنفية قبل خروجه من المدينة : «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ على هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين». أليس هذا هو شعار من يريد اليوم إصلاح الأرض والعباد من المفاسد؟

إن قتل الحسين (عليه السلام)، لم يكن خطأ تاريخياً من قاتليه أو أنه تم بمنأى عن ولاة ذلك الزمان، كما يروج لذلك اليوم، وإنما هو أمر قدّره الله تعالى لهذه العائلة المحمدية بأن يكون دمها فداء للإيمان، ومفترق طريق بين الآخرة والدنيا. دليلنا يقين الحسين ذاته بمصيبته الآتية له من قتل وسلب وقطع رأسه الشريف، وبسبي وأسر أهل بيت النبوة. أليس هو القائل: «خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عُسلان الفلوات بين النواميس وكربلا، فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقربهم عينه وينجز بهم وعده، ألا فمن كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى».

لنتساءل إن كان الحسين طالب حكم ودنيا هل كان ليخرج بأهل بيته وعترة النبوة، وهو يعلم ما سينتظره وينتظرهم من مصاب جلل؟

إن شهادة الحسين بن علي (عليهما السلام)، تحمل في مضمونها الكثير من البلاغة في المنطق قبل الأسلوب، تخاطب فينا ذلك الكائن الذي هو أول ما خلقه الله تعالى، ونعني به العقل، لنتدبر في حوادث الزمان التي إما ينعم بعبرتها الإنسان، وإما يهلك في بحر التزمت والتشدد من دون الوعي والتفكر، فكيف سيكون إذاً مع فاجعة عاشوراء؟

فمصيبة عاشوراء ليست حكراً على طائفة دون أخرى، بل هي قضية إنسانية، أراد الله بها اختبار المؤمنين بحكمته وقضائه والصابرين على بلائه والعاشقين للقائه.

فالسلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين ورحمة الله وبركاته.


فهد توفيق الهندال


إعلامي وكاتب كويتي

[email protected]