في رثاء العادل

18 يوليو 2024 10:00 م

ما إن نُشر خبر وفاته في الصحافة، ونعاه المجلس الأعلى للقضاء، وتناقل مآثره أهله وزملاؤه القضاة في مواقع التواصل، حتى حدّثتني نفسي أن أكتب هذا المقال عن رجل عملت معه لخمسة أعوام، فما رأيت منه إلا خيراً، وما سمعت منه إلا أطايب القول، وما أصدر حُكماً حتى استرشدت به بعملي القانوني.

كان المستشار عادل الكندري - رحمه الله - بالإضافة إلى عمله كقاضٍ إداري في محكمة الاستئناف، يشغل منصب رئيس مجلس التأديب في هيئة أسواق المال، وهو مجلس يحتكم إليه من رصدت الهيئة مخالفته لقانونها أو لائحتها التنفيذية، ومن توفيق الله تعالى أن أُسند إليه هذا المكان في وقت كانت الهيئة فيه تخطو خطواتها التنفيذية الأولى، الأمر الذي جعل من قراراته التي سطّرها بقلمه تغدو المبادئ المفسّرة للقانون ولائحته.

لذلك، فليعلم الجميع أن المستشار عادل، هو المفسِّر الأول لقانون هيئة أسواق المال الكويتي، وبناء على تلك التفسيرات تعمل الهيئة ويحكم القضاء ويتصرف المخاطبون بهذا القانون إلى يوم الناس هذا.

كنت أثناء عملي أقرأ قراراته نهاية كل أسبوع عمل، فتلفتني عقليته القانونية الفذة القادرة على النسج من المواد الرقابية الجامدة، تفسير عادل يوازن بين مصلحة الدولة والأشخاص الخاضعين لرقابتها، ولا غرو فهذه العقلية ارتحلت معه من محراب القضاء الإداري الى مجلس التأديب.

فالقضاء الإداري قضاء - بطبيعته - خلّاق يحتاج إلى قاضٍ مبدع، ينسج من المبادئ العامة للقانون أحكاماً تحافظ على المصلحة العامة للدولة دون أن تبخس حق المتقاضي، كما أن من مهامه الكبرى تفسير المبهم من نصوص القانون، والتي تكون في العادة موطن نزاع بين أطراف الدعوى، فإن أحسن القاضي غدت أحكامه مبادئ راسخة يسير عليها من بعده. وهكذا يكون القضاء في حالة تطور دائم حسب النصوص الجديدة والنوازل المستجدة والبراعة الفكرية للقاضي الذي ينظر الدعوى.

أما هذه الاخيرة فكانت متأصلة عند الراحل (بو عبداللطيف)، وهذه حقيقة يعلمها كل من عمل معه أو قرأ أحكامه بعيون الفاحص المتخصص، لذلك سأقولها بكل فخر إني درست القانون الإداري في الجامعة، إلا إني تعلّمته من المستشار العادل عادل الكندري، رحمه الله.

ولإدراكي لهذه الحقيقة، ومن فرط فضولي بحثت عن أحكامه التي كتبت عنها الصحافة، فوجدت خبراً قديماً بعض الشيء حول إلغاء القضاء الإداري لإحدى لوائح جامعة الكويت التي تفرّق بمعدلات القبول لكلية الطب بين الطلاب والطالبات، وقد كان خبراً صحافياً مقتضباً ذُكر فيه اسم رئيس الدائرة المستشار عادل الكندري، فتحينت الفرصة ظهر الخميس حيث يباشر عمله بالهيئة في غرفة مجاورة لمكتبي، فما ان خرج حتى سألته عن ذلك الحكم وأساسه القانوني! فابتسم، وأحسبها ابتسامة فخر، ثم أسهب بسرد قصته، إذ اختصمت إليه طالبة استكملت شروط القبول لكلية الطب إلا أن التفريق بين الطلاب والطالبات في شروط القبول منعها من دخول الكلية، فانتصر لها وأنصفها وألزم الجامعة بقبولها في كلية الطب، ثم استطرد بوصف مشهد أبيها يوم صدور الحكم إذ ذرفت دموعه فرحاً بالانصاف الذي ناله من القضاء.

حينها تراءى لي جانب ضمني في هذه القضية. أن الحِمل الشديد الملقى على عاتقه، والمجهود الذهني المطلوب منه والذي ينوء به الرجال، لا يمكن أن يُؤدى بهذا الاتقان ما لم يدفعه دافع عظيم كإقامة العدل، ولعَمري، فإنه لا أسمى من إقامة القِسط بين الناس، ولا أجل من ذلك غاية ومأرباً.

لذلك أعتقد أن القضية التي روى لي قصتها محفورة في ذهنه، ولها أثر بالغ في نفسه، وآية ذلك ما تبعها من مسيرة قضائية برد المتعسف عن تعسفه، وإعادة الحق لمن سلب منه جوراً وظلماً.

ولي في نهاية قولي رجاء من المجلس الأعلى للقضاء، في أن يفرد مُؤلفاً يشمل الأحكام التي أصدرها المستشار عادل الكندري، والتي أسست لمبادئ سار عليها القانون والقضاء من بعده، كما أتمنى أن يكون هذا الإصدار بالتعاون مع هيئة أسواق المال، حيث إن أحكام مجلس التأديب برئاسته تمثل التفسير الرئيسي لقانون الهيئة منذ إصداره إلى اليوم.

وفضلاً عن واجب الوفاء للراحل، فغني عن القول، إن تلك الأحكام تحوي فائدة علمية لا تضاهيها فائدة في هذا الباب من أبواب القانون الكويتي.

فرحم الله الفقيد،،،

ولعل يصدق فيه قول رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم،:

(لا حَسَدَ إلّا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسَلّطَه على هَلَكَتِه في الحقّ، ورجل آتاه الله حِكمَة، فهو يقضي بها ويُعَلّمُها).