أماكن / سيدي الأربعين

1 يناير 1970 04:56 ص
| جمال الغيطاني |

في المدن والقرى المصرية... يوجد ضريح له اسم واحد، يحوي كل منها رفات بعض الصالحين، لا أحد يعرف على وجه التحديد من هم، ومن أين جاؤوا... وفي كثير من الليالي كنت أرى شمعة أوقدها مجهول على أحد هذه الأضرحة، أو عابر سبيل يقف ليقرأ الفاتحة.

وفي الريف المصري أيضا تنتشر أضرحة سيدي الأربعين، وقد حيرني هذا طويلا، إلى أن اهتديت إلى تفسير خاص، ذلك أن أسطورة إيزيس وأوزيريس تقول إن إله الشر ست قتل أوزيريس وفرق جسده إلى أربعين قطعة، ودفن كل منها في منطقة من أرض الوادي، وأن إيزيس راحت تبكي دامعة وهي تحاول جمع تلك الأجزاء، ومن دموعها فاض النيل ولايزال يفيض. الأسطورة القديمة بقيت في الضمير، وعبرت عن نفسها في أزقة المدينة الكبيرة وحواريها، المدينة التي ورثت جميع المدن، الحكايات بلا حد.

لكنني مورد ما سمعته في الجمالية حيث نشأت في قلب القاهرة.. القديم يقوم مسجد سيدي ومولاي الحسين عليه السلام، إنه ليس المركز الروحي للقاهرة فحسب، ولكنه المركز الروحي بالنسبة للوادي كله، لكل محافظة في مصر وليها وشيخها، للوجه البحري وليه وحاميه سيدي أحمد البدوي، وللصعيد سيدي عبدالرحيم القنائي، للمنيا سيدي الفولي، وللأقصر سيدي أبوالحجاج.

ولكل مدينة شيخها الشهير الذي يقصده الناس، فكأن هناك نظاما هرميا يبدأ من العاصمة المركز حيث ضريح مولانا الحسين، وشقيقته الطاهرة زينب، فكأن العالم الروحي للأولياء والقديسين موازٍ لهرمية السلطة والإدارة... إلى الشرق من ضريح مولانا يمتد حي قديم اسمه أم الغلام.

تقول الروايات المتداولة إن رأسه الطاهر بعد أن احتز في كربلاء طار لمدة أربعين يوما حتى حط في القاهرة «لم تكن القاهرة شيدت بعد»... حط في حجر امرأة فقيرة تبيع الفاكهة. تعرفت عليه واحتضنته، وكان عطر يفوح منها، خبأت المرأة الرأس الشريف، وعندما جاء جند «يزيد» يبحثون عن الرأس، قامت المرأة بجز رأس ابنها الغلام، وقدمته إليهم على أنه الرأس الذي حط عندها.

هذا هو تبرير إطلاق اسم أم الغلام على هذه الناحية القريبة من الضريح الحسيني، ولكن الغريب أنه يوجد شق صغير في جدار الجزء المتبقي من المسجد الأصلي الذي بناه الفاطميون، هذا الشق عطر الرائحة، إذا وضعت اليد فيه خرجت بعطر غريب، دقيق، ولكم حملت يدي هذا العبق، يقول الناس هنا، إن هذا هو الوضع الذي حط فيه الرأس الشريف بعد أن طار أربعين يوما من كربلاء مسبحا، موحدا.

من يضع العطر؟

ما مصدره؟.. لقد سألت، ودققت، وحققت، فلم أصل إلى جواب يقيني.

***

إذاً، ورثت المدينة الجديدة التي اختطها جوهر كل ما قام من عواصم قبلها، وتحولت هذه المدن السابقة إلى مجرد أحياء أصبحت من نسيج المدينة ولحمتها، الموقع هو الأساس، يقول الدكتور فتحي مصيلحي في كتابه عن تطور العاصمة والقاهرة الكبرى الذي صدر العام الماضي.. إن النظم السياسية المتعاقبة على مصر اكتشفت أهمية موقع رأس الدلتا «حيث يبدأ تفرع النيل إلى فرعين» ونهاية الصعيد، ويحصي حركة العواصم المصرية عبر خمسة آلاف سنة في عشرين موقعا، حتى استقر الموقع القاهري، وذلك لعدة أسباب منها: الموقع الجغرافي المتوسط للوادي كله. تمتع موقع القاهرة بإمكانيات حماية طبيعية، إذ تقع في ملتقى مداخل مصر الأربعة، الشمالي طوقه سبع غزوات، الشمالي الغربي جاء منه غزوتان فقط، ومن الجنوبي خطر واحد، أما المدخل البحري فجاء منه الخطر الأوروبي.

هذا الموقع المتوسط بالنسبة للمداخل يسمح بوجود شقة أرضية تسمح بالعمليات الحربية وتعويق حركة الغزاة، أما تلال المقطم في جنوب شرق القاهرة فتزيد من صعوبة اختراقها بريا، كما أن هذا المركز نقطة عبور وحركة.

هكذا منح الموقع عناصر الحكم والسيادة بجوانبها المختلفة، سواء على المستويين المادي أو الروحي، وليس هناك رمز على مركزية القاهرة مثل قلعة الجبل والمكانة التي كانت تحتلها حتى بدايات القرن التاسع عشر.

القلعة وميدانها

عندما زالت الدولة الفاطمية، وجاء صلاح الدين الأيوبي الذي أجهز على ما تبقى منها، بدأ بناء قلعة الجبل لتكون مركزا للحكم بدلا من قصور الخلفاء الفاطميين التي احتوت عليها القاهرة، اختار للقلعة موقعا فريدا فوق تلال المقطم الصخرية ومع مرور الزمن أصبحت القلعة مركزا للحكم خاصة في العصر المملوكي الثاني، اتسعت وأصبحت تشبه مدينة صغيرة مستقلة.

وعندما كانت تنشب الصراعات بين السلطان وخصومه، كانت النقطة الحاسمة الفاصلة هي الاستيلاء والسيطرة على القلعة، ومن أهم الأماكن فيها قصر السلطان نفسه، والاصطبل، حيث الخيول التي توازي سلاح المدرعات الآن، والحواصل السلطانية أي مخازن المؤن.

بمجرد الاستيلاء على القلعة ينتهي الصراع، فكأن المكان رمز حاد للسلطة يحتوي بلغة عصرنا على الإذاعة، حيث يبث البيان الأول في دول العالم الثالث، ومعسكرات الجيش، وجميع الهيئات الإدارية، فأي رمز لمركزية السلطة أبلغ من هذا؟

في مواجهة القلعة تقوم عمارة أخرى من أعظم العمائر في العالم الإسلامي، إنه مسجد السلطان حسن، كتلة معمارية هائلة، كانت تبدو كصرح ضخم للقادم من بعيد قبل أن تقترب منها المباني وتنال من الفراغ المحيط بها.. إن روعة العمارة، وثقل الزمن القديم المتوارث هنا. جعل لميدان القلعة خصوصية فريدة، كان في الزمن المملوكي يسمى ميدان الرميلة، وفي العثماني قرة ميدان، أي الميدان الأسود، وذلك لوجود سجن شهير على مقربة منه، ثم أصبح اسمه ميدان صلاح الدين نسبة إلى مشيد القلعة.

غير أنني أفضل تسميته ميدان القلعة، وما من مدة أمضي إليه، وأقف بين مدرسة السلطات حسن السامقة، ومسجد الرفاعي الذي أنشئ في القرن الماضي، وحاول مهندسه العثماني محاكاة بناء المدرسة العظيم، ما من مرة أقف فيها هنا إلا وأشعر أنني انتقلت إلى عدة عصور منقضية، وليس عصرا واحدا فقط، في المواجهة تقوم القلعة فوق ربوة مرتفعة، وإلى جانب الميدان الأيسر مسجد أمير آخور القادم إلينا من الزمن المملوكي، ومسجد المحمودية من الزمن العثماني، والرفاعي من القرن الماضي، أما الميدان نفسه فلكم يوحي.

أتذكر وصف ابن إياس له في حقبة السلطان الغوري عندما غرس فيه الأشجار، وأتى إليه بالنباتات النادرة، وأطلق فيه الغزلان والنادر من الطيور، وهذا البهلوان الأجنبي الذي جاء ومد حبلا بين مئذنة السلطان حسن والقلعة، ثم مشى فوقه، وكان الأمر فرجة لأهالي المدينة، هنا كانت تبدأ المواكب السلطانية التي حفظت لنا كتب التاريخ أوصافا رائعة لها.

أعود إلى وقفتي بميدان القلعة، إلى هنا كان يجيء السفراء الأجانب قبل صعودهم إلى مقابلة السلطان، كانت التقاليد تقضي أن يدخلوا المدينة من بوابة الفتوح. وقبل عبورهم يقبلون الأرض ثلاث مرات، ومازالت بوابة الفتوح قائمة إلى جانب اثنتين أخريين في حالة جيدة تماما، بوابة النصر وبوابة زويلة التي استغلها المهندس الذي شيد مسجد المؤيد شيخ الحموي فوضح مئذنتين فوقها ما أكسبها شكلا جماليا فريدا متميزا، وهذه البوابة هي شعار القاهرة الآن، توجد بوابة أخرى كشفت عنها الحفائر الحديثة ولكنها ليست في حالة جيدة، متكاملة مثل الآخريات، إنها بوابة البرقية.

وهذه البوابات الأربع المتبقية من أصل سبع كانت تتخلل السور المجري العظيم الذي بناه أمير الجيوش بدر الدين الجمالي الأرمني الأصل قرب نهاية الدولة الفاطمية، ومازالت أجزاء كاملة من السور باقية إلى يومنا هذا كنموذج فريد على العمارة الحربية الإسلامية القديمة.

هنا في ميدان القلعة كانت تبدأ الاستعراضات العظمى، والاضطرابات العظمى أيضا، عند وقوع الفتن، واندلاع المنازعات، يلبس المماليك «حربة» ويركبون خيولهم المطهمة، ويشهرون أسلحتهم، عندئذ تنسحب المدينة إلى داخل ذاتها، يغلق الناس أبوابهم، وتخلو الشوارع من المارة، ويسود الترقب والحذر انتظارا لحسم الصراع.

هكذا كان موقف الشعب من فتن المماليك، وصراعاتهم، واضطراباتهم، ولكن هذا الموقف السلبي لم يكن في جميع الحالات، فكثيرا ما كان يتدخل الناس لحسم الصراع، أو للتعبير عن رأيهم، كما حدث عندما خرجوا يتظاهرون هنا في ميدان القلعة مطالبين بعودة السلطان الناصر محمد بن قلاوون بعد عزله في المرة الأولى والمرة الثانية، وأيضا خلال فتنة الأمير منطاش في بداية حقبة المماليك الجراكسة.

موكب المحمل وهو في طريقه إلى البلاد الحجازية كان يبدأ من ميدان القلعة، كذلك موكب رؤية هلال شهر رمضان، هنا أيضا كانت تنتهي مواكب السلطان، بعد أن يشق مدينة القاهرة بدءا من عبوره بوابة الفتوح، ثم شارع قصبة القاهرة، ثم شارع الصليبة، حتى ميدان القلعة.

وهذه المسميات يمكن اعتبارها اسما لشارع واحد، مازال متصلا حتى يومنا هذا، ولكنه يقاوم البلى وأيدي الهدم التي لا تحفل بذاكرة التاريخ، ولا تحتفي بما خلفه لنا الماضي من كنوز وآثار، إنما تعتبرها عبئا ثقيلا فتحاول الخلاص منه، تلبية لمتطلبات قصيرة المدى، أو بدعوى فهم خاطئ للتحديث.