في غزة ولبنان والعراق... المقاومة تصعّد بنار البندقية لرفض نتنياهو غصن الزيتون

15 مايو 2024 09:54 م

عكست عمليات المقاومة في غزة ولبنان والعراق قرار التصعيد العسكري ضدّ إسرائيل مع حفْظ خطوط وقواعد الاشتباك.

فقد صعّدت فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة الهجمات لمستوى غير مسبوق ضد جيش الاحتلال الذي توغّل في حي الزيتون (الذي انسحب منه بعد 6 أيام) وجباليا في شمال قطاع غزة، ورفح جنوباً. بينما استبدلت المقاومة في لبنان صواريخها ومسيَّراتها بأخرى أكثر تدميراً، وكذلك أطلقت المقاومة في العراق مسيّراتها وصواريخها على مناطق مختلفة في فلسطين المحتلة.

وأتى هذا التصعيد الملحوظ بعد رفض إسرائيل الاتفاق المصري - الأميركي الذي وافقتْ عليه «حماس» لتتمسّك بغصن الزيتون في يدٍ، وبالبندقية في اليد الأخرى، وتصطدم بقرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو باستخدام الضغط بنار المواجهة التي أوقعت أكثر من 120 قتيلاً وجريحاً خلال أيام معدودة في صفوف جيش الاحتلال.

بعد اختيار نتنياهو طريق الحرب ودخول رفح ظناً منه أن موافقة «حماس» على اتفاق وقف إطلاق النار دليل ضعف، اجتمعت الفصائل الفلسطينية وقيادتها من القسام وكتائب أبو علي مصطفى وكتائب الناصر صلاح الدين وسرايا القدس وكتائب المجاهدين وقررت رفع مستوى الألم والأذى بقوات الاحتلال عبر اللجوء إلى غزارة العمليات العسكرية أكثر مما قامت به في الأيام والأشهر الأولى لاجتياح غزة.

وهذا القرار متعدد الهدف: تقديم أداء متميز، وتوجيه رسالة بأن المقاومة لم تستخدم سوى جزء من قواتها وأن قرارها بقبول اتفاق وقف إطلاق النار لا ينبع عن ضعف إنما عن قناعة بأنها ترغب في إنهاء معاناة السكان، وتأكيد أنه لا يمكن القضاء على المقاومة وان قتل المدنيين وتدمير غزة لن يثنيها عن مقارعة العدو، وأنها مازالت تملك القدرات الكافية للقتال بمستوى أكثر غزارة وصلابة.

وأظهر أداء المقاومة التي استخدمت أسلوب الترويع والصدمة للمجتمع الإسرائيلي وقيادته – عدا نتنياهو ووزرائه المتطرفين – أنه بعد أكثر من سبعة أشهر من القتال، لن يستطيع جيش الاحتلال تحقيق أي إنجاز في ساحة المعركة.

وقال اللواء احتياط في الجيش الإسرائيلي إسحاق بريك إن «دخول رفح سيكون المسمار الأخير في نعش قدراتنا على إسقاط حماس» وإن «عدم اتخاذ قرار في شأن اليوم التالي سيؤدي إلى المزيد من القتلى في صفوف الجيش (الاحتلال)». إذ إن دخول رفح - دخلت إسرائيل شرق رفح دون غيرها - سيكشف زيف ادعاء نتنياهو بأنه مازالت هناك فقط أربع كتائب لحماس. وتالياً هو سيفقد ورقة المناورة خصوصاً بعد تكبد جيش الاحتلال على جبهات الشمال والجنوب خسائر مهمة أثبتت عدم قدرة نتنياهو على تحقيق أي أهداف له.

وقد أكد ضابط في الفرقة 98 التي تقاتل في جباليا أن المقاومة تحارب بعدوانية وشراسة أكبر من قبل وتبعث برسائل أن نتنياهو يُخْفي الحقيقة عن الإسرائيليين بأن حربه الشخصية لا تأتي بأكلها وتجري بما لا يشتهي.

إلا أن إمساك نتنياهو بقيادة الحكومة والأجهزة الأمنية وتَمَتُّعه بدعم 64 مقعداً من أصل 120 داخل الكنيست يدفعه لمواصلة الحرب دون أفق ولا محاسبة ولا توقيت محدد لإنهاء القتال. فنرجسيته وأيديولوجيته المتطرفة التي تتقاطع مع وزيريْ الأمن إيتمار بن غفير والمال بتسلئيل سموتريش تمنعه من الذهاب نحو اتفاق مع المقاومة الفلسطينية. ويجب عدم إغفال أن نتنياهو ربيب إسحاق شامير، رئيس الوزراء السابق الذي اتهم بالإرهاب قبل إعلان قبول إسرائيل كدولة في الأمم المتحدة بسبب قتل بريطانيين وعرب ويهود وتطرّفه تجاه الفلسطينيين الذين لم يغادروا بلادهم. ولذلك فإن أهدافه بقتل وتهجير الفلسطينيين تتناغم مع أفكار المتطرفين الصهيونيين في فلسطين المحتلة.

ويدعم الغرب الأهدافَ الإسرائيلية وإن تَخفّى بثياب إنسانية تهدف فعلياً لنكبة فلسطينية ثانية. فها هي أميركا تعلن أن الرصيف البحري سيكتمل ويدخل الخدمة الأسبوع المقبل «بهدف إرسال المساعدات الغذائية لغزة». إلا أن الحقيقة الخفية تختلف عما يقوله الأميركيون. فإنشاء الرصيف - الذي بلغت تكلفته 320 مليون دولار - فكرة إسرائيلية طُرحت منذ العام 2015 وأعيد طرحها عامي 2019 و 2022 وكذلك بعد السابع من أكتوبر. ولكن هناك عدة مداخل لقطاع غزة شمالاً وشرقاً وجنوباً تسمح بإدخال المساعدات بكمية وسرعة أكبر بكثير مما تستطيع البواخر حمْله وبتكلفة أقل.

لكن الهدف الحقيقي بدأ يظهر من خلال ما أعلنه النائب البريطاني سام تاري عن فتح الحدود البريطانية لفلسطينيي غزة «المتعلمين والأطباء وأصحاب المهن لإنقاذهم من الهمجية التي يواجهونها»، بدل وقف المجازر الإسرائيلية. ومن غير المستغرب أن تنهال عروضٌ مماثلة لمساعدة إسرائيل في الحرب الديموغرافية وترحيل الفلسطينيين من بلادهم. وهذا ما يطمح إليه نتنياهو.

وقد قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بخطوة إلى الوراء عبر فتح النار على جبهات عدة في الشمال والجنوب دون اكتراثٍ للنتائج في ظل غياب دولٍ عظمى وافتقار جبهة داخلية متينة في ضوء تحميله مسؤولية تعطيل الاتفاق مع المقاومة وتصاعُد الاعتراض في العالم على إجرامه. إذ لا يأبه نتنياهو بإرغام المهجّرين الفلسطينيين على النزوح عنوة إلى مناطق غير آمنة ولا صالحة للعيش، وهو لا يهتمّ لوقف إطلاق النار ولا بإنهاء الحرب لأن ذلك من شأنه إنهاء تحالفه مع المتطرفين أمثاله داخل ائتلافه الحكومي ووضْعه في موقف المتّهَم داخلياً على الإخفاقات إلى جانب الاتهامات بالرشوة.

فلا أصوات أهالي المحتجَزين الإسرائيليين ولا الخسائر الاقتصادية - التي بلغت 56 مليار دولار – ولا الشرخ الاجتماعي غير المسبوق - الذي تجلى خلال «احتفال الاستقلال-النكبة» وامتناع نتنياهو عن الحضور أمام الجماهير خوفاً من رد فعل الإسرائيليين الذين هاجموا وزراء عدة ورفضوا وجودهم لاتهامهم بقتل أبنائهم في الجيش بسبب الحرب الفاقدة الأفق - يؤثر على قراره بوقف الحرب. فهو يفاوض من منطق القوة العسكرية ما دام يتلقى الدعم العسكري اللامحدود وقادر على تحمُّل أثمان الحرب ويناور بالنار ليضبط الإيقاع في الداخل الإسرائيلي من دون تضييق هامش المساحة التي يتحرك فيها ليضبط المزاج العام لمصلحته.

إلا أن الهوة تتسع بين القادة الأمنيين والجيش من جهة والقادة السياسيين من دون أن يؤثر ذلك على نتنياهو الذي يتلطى خلف عجز جيشه عن تحقيق الأهداف المرسومة. وتتّسع الهوة أيضاً بين إسرائيل وأميركا التي لم تتوقع أن تعمّق هذه الحرب الخلاف الأميركي الداخلي ومع الخارج. فضبابية الأهداف التي يعجز عن تحقيقها (إنهاء المقاومة وإطلاق سراح الأسرى) لم تمنع نتنياهو من أن يكابر ويستمر في المضي بمنطق القوة. وهذا يدل على أن المعارك مستمرة بلا أفق ومن دون مكتسبات عسكرية لإسرائيل.