من المؤكد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وضع خطةً منذ بداية قراره باجتياح غزة، وهو يعلم كيف ستنتهي الأمور وما أهدافه النهائية بغضّ النظر عن التدخلات الأميركية والأوروبية التي تحاول التأثير عليه لتخفيف معاناة السكان المدنيين في قطاع غزة، ولكن من دون جدوى.
وأَخْرَجَ نتنياهو من جعبته جميع حِيَله التي بدأها باستيعابِ فشله في عدم التنبؤ والسيطرة على غزة يوم السابع من أكتوبر، وباستيعاب مُعارِضه الشرس بيني غانتس ضمن وزارة الحرب المصغّرة ليصل اليوم إلى مرحلة الاستغناء عنه وتحييده من دون عَزْله.
ويَعتمد نتنياهو على تسريباتِ خطّته ما بعد غزة أو تسريب قبوله بمبادرة جديدة لوقف إطلاقِ نارٍ موقت ليصل إلى تحرير بعض الأسرى بثمنٍ مقبول، ولكن مع تصميمه على استمرار القتال بعد ذلك لرغبته في دخول التاريخ الصهيوني الإسرائيلي والتفوّق على ديفيد بن غوريون وتاريخه على حساب الدم الفلسطيني، كما فعل مؤسس الدولة العبرية.
تأثّر بن غوريون، البولندي الأصل، بأول كتابٍ أصدره تيودور هرتزل أب الصهيونية العلماني، بشعار «حين تريد فلن يصبح هذا الأمل حلماً من الأحلام». وأسّس حزب العمل الإسرائيلي (Ahdut Haavodah) ليعمل على رأس اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية في فلسطين ويكون جزءاً من حزب الهاغاناه لتنفيذ وَعْدِ بلفور وجلْب أكبر عدد من اليهود من الخارج ليمهّد الطريق لدولةٍ لليهود.
وتحوّل اليهود في فلسطين إلى عصابات مدرّبة ومسلّحة صهيونية هدمت أكثر من 675 مدينة وقرية من أصل 774 وجعلتْ المدن الفلسطينية الرئيسية مدناً يهودية وطردت غالبية القبائل البدوية التي قطنت صحراء النقب. وأبرز المجازر التي قامت بها سُجّلت في: القدس، حيفا، بلد الشيخ، العباسية الخصاص، باب العامود، الشيخ بريك، بلد الشيخ، فندق سميراميس، السرايا العربية، السرايا القديمة، يازور، طيرة، سعسع، بناية السلام، دير ياسين، اللجون، أم الشوف والصفصاف.
وعمل على تشكيل حركة الاستيطان الجماعية (الكيبوتسات) وتَعاوَنَ مع اليهود الأرثوذكس المتطرفين، حتى ولو كان اشتراكياً، في ما يتعلق بمسائل الدولة والدين ما ترك أثراً كبيراً على السياسة الداخلية والمجتمع الإسرائيلي، وكان له تأثير كبير في إنشاء الجيش وتعزيز مكانة إسرائيل على الساحة الدولية.
كما عمل بن غوريون لمدة 15 سنة وبفتراتٍ متقطعة كرئيس وزراء لإسرائيل، وشهد المجتمع الفلسطيني النكبة خلال فترة ولايته، لتتذكره إسرائيل كأب لها ومؤسس البلاد. وهو طارد الفلسطينيين وتسبب بمعاناتهم من خلال القتل والتهجير القسري لتأمين السيادة اليهودية المطلقة وأوجد انعدام الجنسية للفلسطينيين في داخل أراضيهم في الشتات.
أما نتنياهو فقد عمل مدة أطول من بن غوريون كرئيس للوزراء وأشرف على العديد من العمليات العسكرية في غزة، ونشط لتمكين إسرائيل في المجتمع الدولي، وعزّز الصناعات التكنولوجية، وذهب نحو نهج أكثر قومية، وعمل على تطبيع العلاقات مع عدد من دول المنطقة.
وأَعْلى الزعيمان أولوية أمن إسرائيل والقدرات العسكرية والاستخباراتية محلياً ودولياً. وقد برر الاثنان أن ما قاما به هو لـ«الحفاظ على أمن إسرائيل». وعمل كلاهما على توسيع المستوطنات التي تعتبرها الأمم المتحدة وأعضاؤها، بمن فيهم أميركا وأوروبا، غير قانونية وعقبة أمام السلام، ولكنها حظيت دائماً بدعم محلي إسرائيلي من ضمن ورؤية إستراتيجية توسّعية ذات خلفية دينية لسلْب الفلسطينيين أراضيهم.
وقد تتلمذ نتنياهو على أيدي إسحاق شامير الذي كان عضواً فاعلاً في عصابة شترن (STERN GANG-LEHI) المتطرفة والتي أنشئت عام 1931 وحاربت البريطانيين والعرب وضرب أهدافاً يهودية ليصبح أحد قادتها. وانضمّ شامير إلى حزب حيروت اليميني الذي أسسه مناحيم بيغن والذي تطوّر إلى اسم الليكود واتخذ من نتنياهو تلميذه المفضّل.
وبعد مقتل إسحاق رابين عام 1995 عرّاب اتفاق أوسلو، تسلّم وزير الخارجية حينها شيمون بيريز رئاسة الوزراء ليخلفه نتنياهو عام 1996 ويبدأ وضع العصي في اتفاق السلام الذي قبل به ياسر عرفات الذي أدرك عام 1999 أن إسرائيل لا تريد إعطاء الدولة للفلسطينيين. فاندلعت الانتقاضة الثانية عام 2000 واتجه عرفات عائداً للكفاح المسلّح سراً ليتفق مع إيران على تسلم شحنة سلاح عبر سفينة «كارين A التي اعترضتها إسرائيل قبل وصولها عام 2002 وبدأت مرحلة تدمير رام الله ومعها أوسلو.
وكان نتنياهو يتباهى بأنه أعطى الفلسطينيين 2 في المئة من أراضي فلسطين واحتفظ بالسيطرة الكاملة على المياه والبر والبحر وبأنه يخرق المناطق أ و ب المخصصة للدولة الفلسطينية في الضفة. وهو اعتبر أن القضية الفلسطينية انتهت وعقد صفقات مع شركة النفط البريطانية للتنقيب عن نفط وغاز غزة المقدّر بنحو 450 مليار دولار، وأظهر خريطةً لإسرائيل على منبر الأمم المتحدة لا تضم غزة ولا الضفة، قبل أن يشكّل حكومة مع أكثر المتطرفين في إسرائيل والذين يتلاقى معهم إيديولوجياً وبالأهداف الرامية لإنهاء أي سلطة فلسطينية.
وانفجر يوم السابع من أكتوبر في وجهه ليدرك أنها فرصةٌ لا تُفَوَّتُ لبدء مرحلة تحويل غزة إلى منطقة يستطيع جيش الاحتلال الدخول إليها عندما يشاء كما يفعل في الضفة، ولكن بعد تحويلها إلى قطاع منكوب، يعيده إلى العصر الحجري، وهي العبارة التي تحبذ إسرائيل استخدامها لإظهار وحشيتها اللا محدودة.
وبدأ نتنياهو يطبّق هذه السياسة على شمال غزة، حيث دمّر المستشفيات والمدارس والجامعات ودور العبادة والطرق وغَمَرَ الأنفاق بالمياه المالحة لتحويل آبارها غير صالحة للشرب وقَطَعَ الكهرباء ودمّر المَخابز.
وبعد انتهاء العمليات العسكرية في الشمال، انسحب جيش الاحتلال من الوسط ليعود إلى مناطق محدَّدة حين يرغب، أو يستخدم المدفعية والطيران ليدمّر أهدافاً محددة، تماماً كما خطط له نتنياهو.
ويعمل الجيش الإسرائيلي في الوسط والجنوب لتحويل هذه البقعة أيضاً منطقة منكوبة، وهذا ما يسعى إليه منذ أسابيع.
وفي الوقت عينه بدأ حرباً أخرى مع تحويل أنظار السكان الفلسطينيين للبحث فقط عن وجبة غذاء أو بعض قطرات المياه لتمرّ الأيام وكأنها دهور ولينتصر نتنياهو على أمعاء أطفال غزة ونسائها الخاوية ويدفع الجميع نحو حافة المجاعة في حربٍ لم يعرف العالم مثل فظاعتها.
وهذه الورقة بالذات يستخدمها نتنياهو في مفاوضاته التي أُرغم عليها هو الذي يفضّل إعادة الـ136 أسيراً إسرائيلياً في توابيت بَدَلَ دفْع أي ثمن. فقد خسر رئيس الوزراء وزعيم الليكود أصواتاً عدة لصالح بيني غانتس الذي ارتفعت شعبيته على حساب نتنياهو الذي خسر 10 أصوات على الأقل داخل الكنيست (البرلمان).
وينادي غانتس بضرورة استعادة الأسرى وإنهاء الحرب بعد القضاء على «حماس» كأولوية، بينما ينظر نتنياهو والمتطرفون في حكومته لضرورة إكمال الحرب دون أي اعتبار آخَر.
وتالياً، فإن المجتمع الإسرائيلي وسياسييه لا يختلفون على تدمير غزة والمقاومة. ولهذا فإن رحلة نتنياهو بدأت باستخدام براعته الفائقة في المراوغة، ومن هنا نجد أنه يقبل التفاوض مع «حماس» ضمن شروط يضعها هو ولا يعطي الصلاحية للوفد الإسرائيلي سوى للالتزام بخطوط حمر تتلخص بالتالي:
لا لانسحاب كامل، لا لوقف الحرب بل فقط وقف إطلاق النار، لا لتحرير الأسرى الفلسطينيين المحكومين بالمؤبّد وما فوق، لا لعودة النازحين إلى الشمال وكامل القطاع، نعم لإدخال مساعدات إضافية محدودة تحت عذر «ألا تُسرق من قبل حماس»، نعم لوقف الحرب أيام شهر رمضان «إذا انخفضت طلبات حماس المجنونة»، ولا لعدم دخول رفح.
إذاً، ما بَحَثَ عنه رئيس الوزراء سقفٌ منخفض من التنازلات يعطيه موقع المُفاوِض القوي علّه يستعيد ما فقده من الدعم إذا استطاع اظهار نفسه أنه سيخرج منتصراً من هذه الحرب.
ولذلك فإن طول أمدها يخدم مصالحه وأهدافه ويسمح له بالبقاء في الحُكْم حتى أكتوبر 2026 من دون أن يدعو لانتخابات مبكرة.
وإذا لم يدخل إلى رفح، فإن نتنياهو سيضطر للذهاب إلى انتخابات مبكّرة وسيَسقط قبل تحقيق النتائج التي تسمح له بدخول التاريخ أكثر من بن غوريون، هو الذي لقّن «درساً دموياً لمَن تجرّأ» على مهاجمة إسرائيل وقضى على آخِر فصل في القضية الفلسطينية ليتجه نحو الضفة الغربية بعد غزة.
أما إذا دخل رفح، فإن ذلك من شأنه إظهاره كمنتصر على «حماس» وتحويل غزة إلى قطاع يحتاج لسنوات طويلة ليستعيد بعض عافيته، في ضوء انعدام سبل العيش فيه لأن إدخال المواد اللازمة يحتاج لموافقة إسرائيل عبر المعابر المعتمَدة.
«لن يمنعنا أحد من الدخول إلى رفح لأن إسرائيل لن تبقي على حماس في القطاع. لن تستطيع أي جهة منْع العملية العسكرية في رفح. توصلتُ أنا ورئيس الحكومة (بنيامين نتنياهو) لمنع قرار أميركي في شأن عدم دخول رفح. وحتى الاتحاد الأوروبي حاول منعنا». هذا ما صرح به وزير الخارجية يسرائيل كاتس، ما يؤكد أن هدف نتنياهو العمل بالتوازي لإبرام صفقة لتبادل المحتجزين من دون أن يستعجل التوقيت خصوصاً أن هناك أكثر من مليون ونصف المليون مهجّر داخل مدينة رفح الحدودية يجب تهجيرهم من هناك قبل تطبيق خطة جيش الاحتلال العسكرية.
ويتصرّف رئيس الوزراء بحنكة طارحاً خطة هي مجرد أفكار غير قابلة للتنفيذ، معتبراً أنه«لن تكون هناك دولة ولا وجود لأي كيان فلسطيني في غزة ولا في الضفة».
يتصرف نتنياهو وكأنه الحاكم الوحيد في إسرائيل والمقرِّر غير المبالي لما يريده رؤساء العالم، حتى أميركا التي أصبحت في حالة البطة العرجاء. ولذلك فإن الطريق فُتحت أمامه ليدخل التاريخ الصيهوني ويتفوّق على بن غوريون، إذا نجح، أو يذهب إلى «مزبلة التاريخ» إذا فشل. وهذا ما يحوّل نتنياهو إلى رجل شرس لا يردعه شيء ولا أحد.