انتصار فلسطيني معنوي دولي في لاهاي عكّره تجميد «الأونروا»... تعويضاً لإسرائيل

27 يناير 2024 10:00 م

أصدرتْ محكمةُ العدل الدولية قرارَها بقبول الدعوةِ المقدّمة من جنوب أفريقيا والتي تتهم فيها إسرائيل بنيّة الإبادة الجَماعية، واعتبرت، على عكس ما تقدّمت به إسرائيل، أنها الجهة الصالحة للنظر في الدعوى والحُكْم فيها. وأصدرتْ توصيات عدة من الطبيعي أن يفسّرها كل من طرفي النزاع بحسب مفهومه، لأن القوانين جدلية ما دامت غير قاطعة، علماً أنه لا يمكن انتظار قرار قاطع إلا بعد سنوات تحتاج إليها المحكمة لإصدار قرارها النهائي.

إلا ان ما حصل هو يوم تاريخي لأنه وَضَعَ إسرائيل في قَفَص الاتهام أمام محكمة أنشئت عام 1948 رداً على المحرقة اليهودية ومعاداة السامية الأوروبية لليهود، ليقف مَن يدّعي أنه يمثل دولة اليهود اليوم أمام نفس المحكمة التي تتّهمه بارتكاب إبادة جماعية وهولوكوست ضد الشعب الفلسطيني. وستنظر المحكمةُ في الأمر لتثبت ذلك من عدمه بعد حين. لكنه في أي حال انتصار معنوي فلسطيني كَسَرَ من عجرفة إسرائيل وكَشَفَ أمام العالم والمحافل الدولية أي دولةٍ ستقدّم الدعم لإسرائيل المُتَّهَمة، وخصوصاً بالسلاح، لإكمال مَهمة قتْل المدنيين.

لا شك عند أي طرف دولي في أن إسرائيل لم تأخذ يوماً بالحسبان تنفيذ قرار المحكمة الدولية الأوّلي مهما كان نصّه ما دام لا يصبّ في مصلحتها. وتالياً، فإنه انتصار معنوي للفلسطينيين الذين يرون أن قضيتهم لن تموت وان أعلى سلطة قانونية في العالم تنظر بأمرِ ما يتعرضون له حتى ولو أن المحكمة لا تملك قدرة التنفيذ إلا من خلال مجلس الأمن في حال موافقة أعضائه الدائمين. وهذه إحدى أهداف السابع من أكتوبر 2023 حين قامت حركة «حماس» بالهجوم على مستوطنات غلاف غزة غير الشرعية لأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أخرج الضفة وغزة والقدس الشرقية من «خريطة إسرائيل» أمام الأمم المتحدة قبل بضعة أسابيع من الهجوم ولم تتحرك الولايات المتحدة عندها. بل أكثر من ذلك، فقد اعتُبر الأمر وكأنه عادي ولم يأت بجديد وخصوصاً عندما صرّح نتنياهو ان اتفاق أوسلو (1993 - 1995) قد مات. وأتى جواب مستشار الأمن القومي جيك سوليفان ليضيف الطين بلة بقوله أن «إدارة بايدن هي الوحيدة التي لم تشهد مشاكل شرق أوسطية طوال حكمه».

إذاً دخلت قضية فلسطين في موتٍ سريري لسنوات طويلة اعتبرت خلالها إسرائيل أن لديها اليد المطلقة لبناء عشرات الآلاف من المنازل للمستوطنين في مستوطنات جديدة وسجْن أي صوت فلسطيني مُعارض لها كبر أم صغر، ذكر ام أنثى، ولقتل الفلسطينيين العزل تحت حماية وزراء متطرفين في حكومة نتنياهو. وها هم الوزراء أنفسهم يقدمون للمحكمة الدولية الإثباتات اللازمة لجرّ دولتهم المزعومة أمام محكمة العدل الدولية بتصريحاتهم عن «ضرب غزة بالقنابل النووية» و«قطع المياه والغذاء والكهرباء والدواء» و«قتل وفرض مغادرة السكان وتهجيرهم خارج منازلهم وأرضهم إلى دولة مجاورة أو أي جزيرة عائمة».

وحتى لو أتى قرار المحكمة بوقف إطلاق النار الفوري لكانت إسرائيل رفضتْه ولم تلتزم به لأن حربها دخلت مرحلةً تسقط الحكومة وأعضاءها وقادة الجيش والأجهزة الأمنية إذا توقّفت من دون تحقيق الاهداف أو يحقق هؤلاء نصراً ما قبل إعلان انتهائها. واللافت في الأمر أن هناك قرارات عدة وافق عليها أكثر قضاة المحكمة الدولية (15 من أصل 17 وأحياناً 16 من أصل 17) بمن فيهم القاضية الأميركية رئيسة المحكمة وكذلك قاضي إسرائيلي الجنسية الذي وافق على بعض البنود التي قرأتْها المحكمة وهي بنود اتهامية لإسرائيل تسمح بقبول القضية والبت بأمرها لاحقاً.

إلا ان أميركا تصرفت مثلما فعلت إسرائيل (وكذلك كندا وبريطانيا) بتسخيفها لقرار المحكمة «غير الضروري والاستفزازي». بل فعلت أكثر من ذلك، فقد اختارت أميركا واستراليا وكندا وإيطاليا وبريطانيا وبولندا يوم إصدار قرار المحكمة الدولية لاعلان تجميد دعمها المادي (380 مليون دولار) لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الاونروا) التي تقدّم خدمات التعليم والصحة والإغاثة والخدمات الاجتماعية ودعم البنية التحتية لنحو 5 ملايين فلسطيني مسجلين في الأردن ولبنان وسورية والضفة الغربية وقطاع غزة والذين يمثلون 60 مخيماً فلسطينياً ينتظرون العودة إلى منازلهم التي احتلتها إسرائيل.

وتجد المنظمة نفسها منذ تأسيسها عام 1949 في قفص الاتهام من اسرائيل التي طالما طالبت بإغلاقها لأنها تدعم اللاجئين الفلسطينيين بدل التخلي عنهم ليهاجروا إلى دول الخارج وتحاول تجفيف مواردها بتحريض مستمر لأنها تدعم قرار الأمم المتحدة 194 حول حق العودة.

وقد أتى القرار بعد اتهام مزعوم وجّهته إسرائيل بمشاركة 12 موظف في الأنروا من اصل 10000 بتدريبات مع تنظيم «حماس» وهجومها في السابع من أكتوبر. فأعلنت الأمم المتحدة أنها طردتهم وفتحت تحقيقاً لاثبات الحقيقة. لكن ذلك لم يمنع واشنطن من العقاب الجَماعي للشعب الفلسطيني المهجّر والمنكوب والذي هُجِّر من دياره لعقود ويعتمد على المساعدات الأممية، رداً على الانتصار المعنوي عبر محكمة العدل الدولية على إسرائيل. إلا أن هذه التدابير لن تمنع تقدم الأمم المتحدة بقرار المحكمة التابعة لها أمام مجلس الأمن الأسبوع المقبل. ولا شك في ان هذا القرار سيصطدم بفيتو أميركي أو في أحسن الأحوال الامتناع عن التصويت، وخصوصاً لوقوف أميركا بشدة ودعمها المطلق لإسرائيل ضد المحكمة وقراراتها منذ بداية الطريق ولا سيما في أجواء الانتخابات الاميركية وحاجة الحزب الديموقراطي الحاكم لأصوات الصهيونية الأميركية.

إلا أن عدداً كبيراً من الدول الأوروبية أعلنت أنها لم تتخذ خطوات ضد الاونروا وأنها تلتزم بقرار المحكمة وتنتظر من إسرائيل التوقف عن قتل المدنيين والعمل على إخراجهم من أراضيهم. وهذا أيضاً يُعدّ انتصاراً للشعب الفلسطيني لأنه قَسَمَ النادي الدولي بين مؤيد ومعارض لدعم إسرائيل.

جلّ ما حصل في أروقة المحكمة الدولية هو موقف يدعم الشعوب لتضع رؤساءها في موقف محرج إذا استمروا بالدعم العسكري

اللا محدود لإسرائيل كما تفعل أميركا والمانيا وبريطانيا، وما قضية الأنروا إلا لحرف النظر عن الإرباك الذي وضعت إسرائيل نفسها فيه يوم قبلت المثول أمام المحكمة ابتداءً واعتقدت أن قضيتها رابحة.

ومن الطبيعي أن تستمرّ الحرب التي لم تحقق أياً من أهدافها بتحرير الأسرى والقضاء على «حماس» في قطاع غزة ويبقى الشعب الفلسطيني ينوء تحت القصف والجوع والتهجير وقلة الخدمات البسيطة الضرورية للبقاء على الحياة، وهو بند أساسي فرضتْه المحكمة الدولية كشرط أساسي لأن إسرائيل تعوق دخول المساعدات الكافية (120 شاحنة من أصل 500) بعد توقف لأكثر من شهر عن دخول أي دعم إنساني خارجي.

ولم يتعوّد الشعب الفلسطيني على دعم المؤسسات الدولية له. ولذلك، فإن أي انتصار صغير يفرحه ويعطيه أملاً بالاستمرار والبقاء أمام آلة الحرب المدمّرة الإسرائيلية والمتفوّقة عسكرياً ومادياً والتي تتمتع بدعم دولي. ولكن الانتصار الصغير يصبح كبيراً في ظل غياب العدالة الدولية التي من المستبعد ان تستيقظ قريباً. ولا تزال المقاومة مستمرة بقتالها داخل غزة من شمالها إلى جنوبها لأنها قضية بقاء أو موت ليس فقط لها بل للشعب الفلسطيني بأكمله.