الإدارة الأميركية لا تمانع استمرارَ قتْل مدنيي غزة و... تحاول «تبييض» وجْهها الانتخابي

5 ديسمبر 2023 10:00 م
أعادتْ إسرائيل العمليات الحربية إلى ساحة قطاع غزة بقوةٍ، بعد توقُّفٍ دام سبعة أيام لترتكب مجازرَ جديدةً في حق المدنيين وتتوغّل في جنوب غزة المكتظّ بالمهجّرين من شمال القطاع الذين دُمّرت منازلهم.

إلا أن الجديدَ في الأمر، ليس فقط فشل إسرائيل في تحقيق أيٍّ من أهدافها منذ نحو شهر، بل خروجُ تصريحاتٍ أميركية متململة ظاهرياً من نتائج الحرب الإسرائيلية المدمّرة على المدنيين وسحْق البنية التحتية والتي خَرَقَ معها جيشُ الاحتلال الإسرائيلي، بأمرٍ من قيادته السياسية، جميع القوانين الدولية وارتكب جرائم حرب لا شك فيها ما دام قادة الكيان الصهيوني يعترفون بها جهراً عبر الإعلام ولا يخشون المحاسبةَ عليها ما داموا يتمتّعون بحصانةٍ دوليةٍ أميركية.

فهل التغييرُ في الموقف الأميركي جدّي، أم أن لدى إدارة الرئيس جو بايدن أهدافاً أخرى؟

هل بدأ صبرُ واشنطن يَنْفَذُ ولم تَعُدْ ترغب في أن تكون الشريكَ الأساسي في قتْل الأطفال والمدنيين فتحاول التنصل والابتعاد عن الحرب؟ وهل استفاقت الإدارةُ الأميركية على ما يجري لفلسطينيي غزة؟

أعرب وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن قبل أيام قليلة عن مخاوفه «فإذا لم تفعل إسرائيل المزيد لمنْع قتْل المدنيين فإن حربَها على غزة محكومة بالفشل على المدى الطويل. وهذا النوع من القتال يَحدث في مركز الثقل للسكان المدنيين. وإذا دفعتْهم (إسرائيل) إلى أحضان العدو (حماس والمقاومة) فإنك تستبدل النصر التكتيكي بهزيمة إستراتيجية. ولهذا أوضحتُ مراراً وتكراراً لقادة إسرائيل أن حماية الفلسطينيين في غزة هي مسؤولية أخلاقية وضرورة إستراتيجية في آن واحد».

لم تأتِ تصريحات أوستن في شكل فردي. بل كان سَبَقه وزير الخارجية انتوني بلينكن بأيامٍ قليلة حين حضّ إسرائيل على تعديل إستراتيجيتها «وضرورة توفير حماية للمدنيين ولاستدامة وإدارة المساعدات في المستقبل».

إذاً، هناك محاولة أميركية علنية لإظهار الإدارة على أنها لا توافق إسرائيل على استمرار قتْلها للمدنيين الفلسطينيين، خصوصاً بعد سقوط أكثر من 16000 شهيد بينهم 6500 طفل و4500 امرأة.

إلا أن التصريح الخجول أتى متأخراً وغير كامل لأنه لا يحمل في باطنه ما هو ظاهر. إذ لا يدين الجرائم التي ارتُكبت بحق المدنيين ولا قطْع الماء والكهرباء والدواء وتدمير المستشفيات والمدارس والجامعات والمَحاكم ودور العبادة، ولا يدعو لوقف إطلاق النار، ولا يطلب ذلك من على منبر الأمم المتحدة ليضع إسرائيل أمام حقيقة ارتكابها مجازر وجرائم ضدّ الإنسانية. بل إن تل أبيب تَعلم أنها تستطيع إكمال حربها من دون الاهتمام للتعليقات الأميركية لأنها تريد الوصول إلى أهدافها التي لم تحقق أياً منها لغاية اليوم.

ولا تريد أميركا لإسرائيل الهزيمة الإستراتيجية لأن الأخيرة فشلتْ في احتلال والسيطرة على شمال غزة الذي تبلغ مساحته 6 كيلومترات «عرض» و13 كيلومتراً «طول». بل هي تحتلّ 40 في المئة من مساحة الشمال، نصفُها أراضٍ زراعية في مناطق مفتوحة.

إلا أنها لا تسيطر عليها لأن المقاومةَ تهاجمها من قلب المناطق المحتلة التي لاتزال الصواريخ تنطلق منها ضد المستوطنات الإسرائيلية، ما يعني أن جيش الاحتلال مازال يخوض معارك ضارية مع المقاومة الفلسطينية التي تبرع في قتال الشوارع عندما يتوقف القصف السجادي الإسرائيلي.

ولهذا السبب، أعلنت إسرائيل عن تحرّكاتٍ عسكريةٍ تكتيةٍ وإلهائيةٍ جديدة شرق خان يونس جنوب قطاع غزة لدفْع المقاومة إلى نشْر مجهودها الحربي على جبهةٍ أطول لتُخَفِّفَ العبءَ على قواتها المقدّرة بثلاثة فرق عسكرية (9 ألوية) تعمل في منطقةٍ ضيقة، صغيرة وبكثافةٍ سكانيةٍ عالية وتنتشر في الشمال حيث ثِقْلُ العمليات العسكرية. إضافة إلى ذلك، فإن القيادةَ العسكرية تزجّ بقواتٍ من أكثر من محور في الشمال والوسط والجنوب لتستثمر المحورَ الأكثر سهولة وضعفاً وتدفع قواتها ليصبح هو المحور الرئيسي للهجوم والذي من الممكن تطويره لهجوم أكبر.

ولا تحاول أميركا إخفاءَ دعْمها لإسرائيل بقولها إنها لا تمانع فتْح محاور أخرى في الجنوب، بل هي تدّعي أنها تطالب «بمناطق آمِنة للفلسطينيين». إلا أن المشكلة تكمن في أن مساحة قطاع غزة لا تتجاوز 364 كيلومتراً مربّعاً، تقصف إسرائيل الشمال وتزجّ بالقوات فيه. وكذلك بدأت قواتُها تندفع في الجنوب بعد قصفها القطاع بأكمله. وهي ضربت المستشفيات والمدارس التي تمثّل آخِر ملاذٍ آمِنٍ للنازحين قسراً من الشمال والجنوب، وتالياً فلا مكان آمناً في غزة.

وما تطالب به أميركا لا يعدو كونه هدفاً يُعتبر إيذاناً ببدء بايدن حملته الانتخابية التي يُخشى أن تتأثر بالدعم اللا محدود لإسرائيل خصوصاً بعد ظهور الجرائم المروّعة التي ترتكبها ضد المدنيين وتَضَرُّر سمعة واشنطن دولياً بسبب وقوفها بجانب تل أبيب. ولهذا السبب بدأ الرئيس السابق الديموقراطي باراك أوباما الحملةَ الانتخابية بقوله إنه «يرى مَشاهد مروّعة تأتي من غزة»، ليتبعه الوزير أوستن وكذلك نائبة الرئيس كاميلا هاريس حيث يَخشى الديموقراطيون استغلال الجمهوريين لموقف الإدارة الحالية الذي يدعم ويغطيّ التغاضي عن تهشيم إسرائيل للقوانين الدولية في الحملة الانتخابية التي تبدأ أول السنة الطالعة.

تجد أميركا نفسها في موقف سيستغلّه العالم للإشارة إلى ازدواجية المعايير في حروبها الحالية في أوكرانيا واللاحقة التي لابد أن تأتي خصوصاً أن الإدارات الأميركية تعتاش على الحروب التي تنمّي اقتصادَها وتؤكد قيادتها للعالم. ولا يتعلّق الأمر أبداً باستيقاظ الضمير بعد نحو شهرين من القتل الإسرائيلي المُمَنْهَج للشعب الفلسطيني. بل إن الدعم لتل أبيب مستمرّ لأن أي مسؤول أميركي لا يرغب في ارتكاب انتحار سياسي بالوقوف ضدّ إسرائيل التي تملك اللوبي الأقوى في الولايات المتحدة والغرب عموماً. وقد صرّح الناطق باسم البيت الأبيض جون كيربي أن أميركا تدعم إسرائيل بإكمال حربها في جنوب غزة.

لقد أعرب عدد كبير من المسؤولين الإسرائيليين عن نياتهم بمحو الفلسطينيين من غزة وتدميرها بالكامل. واستطاعت إسرائيل الانتصار على الأطفال والنساء والمدنيين عموماً لأن من السهل قتل هؤلاء. لكنها فشلت في مواجهة رجال غزة المقاومين الذين مازالوا يسيطرون على مواقعهم ويملكون الأرض وما تحتها من أنفاق ويضربون قوات الاحتلال داخل بقع حتى في المناطق المحاصَرة في حي الشاطئ وجباليا المطوّقة والشيخ رضوان والرمال والزيتون والشجاعية شرق غزة.

تملك إسرائيل روحاً عالية ورغبة جيّاشة لهدْر دم الفلسطنيين وإكمال الحرب، ولكن روحيةَ الفلسطينيين وإصرارهم على الصمود أقوى من إجرام تل أبيب وقوّتها الجبارة التدميرية. وتبقى الكلمة الأخيرة للميدان الذي لم يرفع الرايةَ البيضاء ويكتب تاريخَ غزة من جديد، وكذلك لحلفاء فلسطين القليلين الذين يحاربون معها بما استطاعوا، هي التي وقفتْ معها شعوب العالم.