الدمار الانتقامي يشفي غليل الإسرائيليين... لكنه لن يُقدّم لهم ما فقدوه من أمانٍ

الإجرام في غزة يُقابِلُهُ تصميم المقاومة على تلقين العدو درساً لن ينساه

8 نوفمبر 2023 10:00 م

أقرّت إسرائيل بأنها قتلت العشرات من حركة «حماس» خلال شهر من القصف البربري على غزة والذي حصد نحو 11 ألف قتيل، أكثر من 70 في المئة بينهم من الأطفال والنساء. وهذا يؤكد ارتكاب جُرْمَ «العقاب الجَماعي» و«جرائم ضد الإنسانية» و«جرائم حرب»، خصوصاً أنها تملك مئات الآلاف من القذائف الدقيقة والتي تصيب الهدف المنشود بدقة.
وتالياً فإن القتل المُمنهَج للمدنيين يهدف إلى إبادة عائلات بأكملها في غزة عن قصد، وبالتحديد قتل الأطفال وحرقهم من خلال القنابل الفوسفورية المحظورة لقطع نسل عائلات غزاوية ودفْع الباقين للهروب عند أول فرصة.
وأكد الناطق باسم البيت الأبيض جون كيربي، أن «أميركا لم تضع أي خط أحمر أمام إسرائيل حتى ولو ارتفع عدد القتلى المدنيين». وهذا ما يجعل واشنطن شريكاً مباشراً في الحرب الدائرة على مدنيي غزة، رغم اعترافها بسقوط عدد كبير من المدنيين.
وها هو جيش الاحتلال يتّخذ من حرب غزة فرصةً للتخلص من أكبر عدد من أطفال غزة بفترة قصيرة جداً لِما يمثّله الأطفالُ الفلسطينيون من خطر ديموغرافي على مستقبل الاحتلال في أرض فلسطين المحتلة.
لكن الغرابة في الأمر، أن تستمر الدول الغربية في دعم قتْل المدنيين ومعاقبتهم جميعاً وضرْب وتدمير غالبية المخابز والمستشفيات، وتهجير السكان. فقد أعلنت منظمة «الأونروا» أن 149 مدرسة تابعة لها في غزة تحتضن 750 ألف فلسطيني مُهجّر فَقدوا مقومات العيش ودُمرت منازلهم بالكامل أو جزئياً. وقد تهجر أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني من منازلهم منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر الماضي، إلى مناطق لا تُعتبر آمنة بسبب القصف الإسرائيلي لجميع مناطق القطاع.
ولا يكتفي الغربُ في دعم الإجرام الإسرائيلي، بل تتحضّر أميركا لإرسال 260 ألف قذيفة لإسرائيل - التي طلبت 200 طائرة انتحارية مسيَّرة – بفعل الاستنزاف الكبير لمخزونها بسبب غزارة القصف الذي يتعرض له القطاع المحاصَر.
لكن الجيش المحتلّ بدأ يتوغل داخل أحياء غزة الشمالية ما جعله على تماسٍ مباشر مع المقاومة الفلسطينية. وهذا ما يمنع القصف العشوائي لمناطق يتواجد فيها الطرفان على مسافة قريبة من بعضهما البعض.
وكلما توغَّل الجيش داخل الأحياء السكنية المدمرة، كلما تعرّض للسعات «النحلة المقاومة» من خلال عمليات مكثفة يَخرج فيها المقاتلون مما تبقى من المباني المدمّرة ومن الأنفاق المتشعبة ليقنصوا الدبابات والمشاة وناقلات الجند.
وهذا من شأنه أن يُفْقِدَ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أي مكسب عسكري يستطيع استثماره في حرب المدن التي زجّ فيها كتائب مدرعة تُستخدم عادة في الحروب الكلاسيكية وليس في مواجهة مقاتلين منظّمين وغير نظاميين أتقنوا «حرب العصابات» في أزقة غزة الشمالية المدمرة.
وقد اعتمدت إسرائيل على قصفها المكثف السجادي متّبعةً سياسة السحق والدمار والصدمة والترويع التي استخدمها الجيش الأميركي في العراق. لكن هذا الأسلوب لا يُجدي نفعاً مع مقاومة مستميتة في الدفاع عن أرضها ويصعد مقاوموها على الدبابة الإسرائيلية لرفع علم «حماس» عليها قبل أن يضعوا قذيفة مصنَّعة محلياً لاصقة على خزان المازوت، وهو أكثر نقطة ضعيفة في الدبابات المصفّحة الضخمة التي تمثّل فخر الصناعة الإسرائيلية.
ويبدو أن «حماس» صممت على تلقين الإسرائيليين درساً لن ينسوه ولن تسمح لهم بالإمساك بالأرض بعد احتلالها. إذ تعتقد المقاومة في غزة أنها «انتظرتْ طويلاً دخولَ الجيش الإسرائيلي الذي لا يتمتع بأي روحية قتالية».
وتؤكد المقاومة - بحسب مصادر على تواصل مباشر معها - «أنها انتظرت هذه اللحظة بفارغ الصبر وهي تمركزت داخل الأبنية المدمّرة لتلتحم مع العدو وجهاً لوجه. وهذا ما دفع الجيش الخائف إلى التراجع في مواقع عدة، والطلب من سلاح الجو قصْف أهداف مدمَّرة لمرات عدة على الرغم من استنزاف بنك الأهداف وتكرار القصف لنقاط محددة مرات ومرات. وهذا ما يُحْرِجُ الجيشَ الإسرائيلي الذي وضع هدف القضاء على حماس مقابل وقف الحرب».
يؤكد رئيس الوزراء السابق إيهود باراك، أن «القضاء على حماس يحتاج لسنة على الأقل»، ويتساءل «هل يستطيع الجيش الإسرائيلي الصمود لهذه المدة»؟
وهذه هي المسألة التي تقع في صلب الموضوع والنقاش الدائر في الأروقة الإسرائيلية، وكذلك في دول أصحاب القرار الذين يجدون أنفسهم في موقع إحراج إذ لن يستطيعوا التغطية المستمرّة على جرائم إسرائيل. ويملك هؤلاء القوة والإعلام الدولي وكذلك النفوذ على المحاكم الدولية لتطبيق القانون الدولي من عدمه إذا لم تتوقف الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكَبة في غزة.
لقد ارتفعت الأصوات مطالِبة نتنياهو بوقف عمليات التدمير التي يقوم بها وتجويع أكثر من 2.3 مليون شخص داخل غزة، إلا انه يخشى وقف الحرب موقتاً وما قد ينتج عن ذلك من ضغطٍ دولي لمنع معاودة القصف والدمار الشامل.
لكن إسرائيل تخشى الخسارة الإستراتيجية للحرب إذا أوقفتها اليوم. فالدمار لن يجلب الأمان للمستوطنين المحتلين حول «غلاف غزة» الذين فَقَدوا الثقةَ بالجيش والحكومة.
صحيح أن إسرائيل لم تدع مكاناً آمناً في غزة بقصفها المدمر، إلا أن المستوطن القانط في الشمال والجنوب، يعيش اليوم في خِيَم أعدتّها له الحكومة كسكنٍ موقت في إيلات إلى حين انتهاء الحرب.
لكن المشكلة الكبرى التي تواجه الحكومة أن سكان الغلاف لن يشعروا بالأمان بعد اليوم خوفاً من 7 أكتوبر من المحتمل أن يتكرر. وتالياً فإن «حماس» قد وجّهت ضربة إلى العمود الفقري للاحتلال الصهيوني ووضعت حكومته في مأزق لا حلّ له إلا بمحو غزة عن الوجود، إذا استطاع. وهذا ما لن يسمح به المجتمع الدولي.
من هنا يجد نتنياهو نفسه في موقف وضعتْه فيه المقاومة من دون أن تقدم له مخرجاً مشرّف أو سلّماً يستطيع النزول عبره عن الشجرة التي صعد إليها. ولهذا فإن دمار غزة الانتقامي يشفي غليل الإسرائيليين ولكنه لن يقدّم لهم ما فقدوه من أمانٍ كان حتى الأمس القريب يُشكّل السبب الرئيسي لتواجدهم على أرض فلسطين.