بعدما أَفْرَطَ في استخدامها لعقود
الغرب والعقوبات... هل انقلبَ السحرُ على الساحر؟
| بقلم - إيليا ج. مغناير |
1 أكتوبر 2023
10:00 م
حظرت روسيا موقتاً صادرات البنزين والديزل إلى كل الدول خارج دائرة بيلاروسيا وكازاخستان وأرمينيا وقرغيزستان.
كذلك توقفت الصين شبه كلياً عن تصدير اثنين من المعادن النادرة الضرورية لتصنيع أشباه الموصلات (Semi- conductors) والألواح الشمسية، في خطوة تهدف في شكل واضح للانتقام من ضوابط التصدير الأميركي «لحماية الأمن والمصالح الوطنية».
وتزامنت هذه الخطوات مع كلمة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وقوله إن «هناك نظاماً عالمياً جديداً قيد التشكيل وسيتم ترسيم حدوده».
وكأن نتائج الحرب بالوكالة الدائرة على الأراضي الأوروبية، لا تكفي بعدما ازداد التضخم ورُفعت الفائدة في شكلٍ أبطأَ بشدة العجلة الاقتصادية، وخسرت قيمة اليورو الشرائية وارتفع سعر النفط ومعه أسعار السلع من دون تمييز.
وتَظهر بوضوح الانشقاقات بين صفوف القادة الأوروبيين حول جدوى الحرب المستمرة التي اتضحت نتائجها بعد فشل الهجوم المضاد الأوكراني، بقيادة غرفة عمليات حلف «الناتو»، ورفض الكونغرس الأميركي السماح للرئيس جو بايدن بصرف 24 مليار دولار لأوكرانيا ما يشكك في استمرار الحرب لمدة طويلة.
إضافة إلى ذلك، فقد فاز حزب «سمر» اليساري الشعبوي في سلوفاكيا الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق روبرت فيكو، بالانتخابات التي جرت يوم السبت، بعدما وعد بوقف إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا، ومنع عضوية كييف المحتملة في حلف شمال الأطلسي، ومعارضة فرض عقوبات على روسيا.
ويحصل الفائز في الانتخابات على الفرصة الأولى لتشكيل الغالبية في البرلمان المؤلف من 150 مقعداً.
وترفض المجر والنمسا الاستغناء عن شراء الطاقة من روسيا.
وفشلت أكثر الدول الأوروبية تشدداً في الزام نفسها بالعقوبات التي فرضتها هي على مصدر الطاقة الروسي: فقد اشترت دول القارة 22 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال من روسيا بين يناير ويوليو 2023 مقارنة بـ15 مليوناً خلال الفترة نفسها قبل الحرب.
ولسنوات طويلة، سيطرت ألمانيا على الأسواق العالمية للمنتجات الصناعية مثل السيارات والآلات وصناعة الزجاج والورق والطلاءات المعدنية المستخدَمة في المباني والسيارات التي انتشرت في أقاصي الأرض لتنشيط الصادرات الألمانية وتصبح أكثر الدول غناءً في المجموعة الأوروبية.
إلا ان حكومة أولاف شولتس، قررت تغيير سياسة حكومة أنجيلا ميركل السابقة المستقلّة عن القرار الأميركي لدرجة معينة، وانخرطت في الحرب الأميركية - الروسية في أوكرانيا.
وأدارت حكومة شولتس النظر عن تفجير أنبوب الغاز الروسي الرخيص، «نورد ستريم -2»، لتكمل سياستها وكأن شيئاً لم يحصل، ولكن ليس من دون أن تحصد النتائج القاسية.
إذ أَلْحَقَ فقدانُ الغاز الطبيعي الروسي ضرراً فادحاً بالصناعة الألمانية واقتصادها المزدهر لتصبح صاحبة أسوأ الاقتصادات المتقدمة أداءً في العالم.
وأصبح الغاز المُسال الذي يصل إلى ألمانيا (وغالبية الدول الأوروبية) أغلى من الغاز الروسي بأربعة أضعاف لأنه يُستورد من الولايات المتحدة وقطر والنروج ودول أخرى.
لكن الميزان انقلب في شكل أكثر وضوحاً.
فقد تمكّنت روسيا من التغلب على العقوبات لتوسّع صادراتها وكذلك نتاجها الصاروخي إلى ما يتجاوز مستويات ما قبل الحرب.
وتكيّفت مع العقوبات الغربية لتأمين احتياجاتها لترفع من وتيرة صناعاتها الحربية من 100 دبابة سنوياً إلى 200، وتصنيع مليوني قذيفة مدفعية سنوياً، وهي ضعف ما كانت تنتجه قبل الحرب وأكثر من سبع مرات من إنتاج الغرب مجتمعاً. وهي أنشأت مصنعاً ضخماً لإنتاج الطائرات المسيَّرة لتتماشى مع الحرب الحديثة.
هذا من دون ذكر التكلفة القليلة جداً التي تتكبّدها المصانع الروسية نتيجة وفرة الطاقة والمواد الأولية في روسيا، وهذا ما لا ينطبق أبداً على إمكانات الغرب المتواضعة من المواد الأولية وارتفاع تكلفة الطاقة والصناعة واليد العاملة مقارنةً بروسيا.
وقد أثبتت العقوبات التي فُرضت على كوبا وفنزويلا وإيران والصين وروسيا عدم جدواها منذ عقود طويلة.
إذ أَوْجَدَ المعاقَبون طرقاً مختلفة للتملص من العقوبات عبر دول أخرى صديقة. بل دفعتْهم العقوبات الغربية لتطوير صناعتهم الداخلية وإيجاد بدائل للتعامل التجاري بعملة محلية.
وذهبت روسيا إلى أبعد من ذلك في أخذ المبادرة وقطْع بعض إمدادات الطاقة وتخفيض الإنتاج ليرتفع الثمن أكثر من 30 في المئة للبرميل الواحد من النفط في الأشهر الأخيرة ليوفر لموسكو مبالغ ضخمة بإنتاج أقلّ.
أما الصين، فقد أوقفت صادرات المعادن النادرة التي تصنع أشباه الموصلات ليقلب الرئيس شي جينبينغ السحر الغربي على الساحر بإخراج هاتف أذهل الغرب بتقدّمه عليهم من خلال تكنولوجيا أشباه الموصلات التي يَستخدمها في عزّ المحاولات الأميركية منذ أعوام لتقويض تطوير التكنولوجيا الصينية.
وقد أثبتت بكين أنها لم تتأثّر بعقوبات الغرب وأنها تملك المستوى العلمي المتقدّم الذي يتخطى القدرات الغربية، وأعطت إشارات إلى أنه حان الوقت ليُظْهِرَ التنين نارَه الملتهبة بتوجيه رسالة من دولة عظمى متقدّمة تكنولوجياً إلى أخرى أقلّ تقدماً، ولاسيما ان إطلاق الهاتف حصل أثناء زيارة وزيرة التجارة الأميركية جينا ريموند لبكين.
وهذا لا يُعدّ سوى تحدٍّ مباشر لأميركا التي حاولت إشعال النار حول الصين لدفعها للابتعاد عن روسيا.
ولكن التقارب الصيني – الروسي وصل إلى درجة غير مسبوقة من التضامن والتنسيق بسبب العداء الغربي الذي تَسَبَّبَ بردّ فعل غير محسوب، وخصوصاً بعد فشل 50 دولة غربية وحلفائها مجتمعين في هزيمة روسيا في أوكرانيا.
وقد ارتفع التضامن ليشمل كوريا الشمالية التي دخلتْ على خط التعاون العسكري مع روسيا. فبعد أشهر من انتخابه رئيساً في عام 2000، سافر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بيونغ يانغ للقاء كيم جونغ ايل الذي تولّى السلطة بعد وفاة والده ليصبح أول زعيم روسي يزور كوريا الشمالية ليعيد العلاقات إلى مسار التعاون العسكري الواسع. وفي عام 2012، عندما تولى كيم جونغ اون السلطة، شطبت روسيا 90 في المئة من ديون الشمال البالغة 11 مليار دولار.
ولكن، بسبب تَقرُّبها من الولايات المتحدة، وافقت موسكو على فرض عقوبات على بيونغ يانغ للحد من إمداد النفط وتضييق الخناق على صادرات العمالة الكورية الشمالية.
إلا أن بيونغ يانغ دعمت روسيا في حربها عام 2022 بوجه الغرب في أوكرانيا للوقوف ضد سياسة الهيمنة.
ومنذ ذلك الحين، انضمت روسيا إلى الصين في معارضة أي عقوبات جديدة على كوريا الشمالية ما أدى إلى انقسام مجلس الأمن للمرة الأولى منذ عام 2006. واتّهمت أميركا، كوريا الشمالية - التي لم تعر واشنطن أي اهتمام - بتزويد روسيا بالأسلحة، خصوصاً بعد زيارة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو لها وبعد رحلة كيم جونغ اون إلى موسكو.
لقد أثبتت جميع عقوبات وتدابير أميركا وحلفائها العدائية تجاه الدول غير المطيعة فشلَها بالوصول إلى أهدافها، في ظل تقارب هذه الدول بين بعضها لإضعاف تأثير العقوبات وعزْل الغرب بدل العكس. وتحاول واشنطن دفْع الحلفاء الأكثر طاعة لتصعيد الحرب ضد روسيا بهدف دفع الكرملين لردّ فعل يجبر الجمهوريين على دعم الحرب ويعيد اللُّحمة بين الدول الأوروبية التي تعاني التشرذم.
وهذا ما عبّر عنه إعلان بريطانيا أنها سترسل ضباطاً لتدريب الاوكرانيين داخل أوكرانيا، في خطوة وإن وكانت ليست بجديدة ولكنها تتحدى روسيا علناً.
نعم، هناك نظام عالمي جديد قيد التشكّل وبدأ العالم ينظّم نفسه على أساس ان الأحادية الأميركية لن تستمرّ طويلاً، خصوصاً بعد ضعف حلفاء الولايات المتحدة، ولاسيما أوروبا، وعدم انتصارها على روسيا لتفكيكها وتقسيمها.
ومن غير المستغرب ان تبدأ الدول التي تملك قدرات وثروات طبيعية هائلة بفرض عقوبات على الغرب، من الامتناع عن تصدير ما تحتاج إليه هذه الدول، مثل الطاقة، أو من المعادن النادرة، ليشعر الغرب للمرة الأولى بألم العقوبات التي أفرط في استخدامها لعقود طويلة.