شاعر متألم يحتفي بالكلمات

حوار / لامع الحر: القصيدة... منقذ يمد يدّه للغريق

1 يناير 1970 06:23 م
|بيروت - من اسماعيل فقيه|

لامع الحر شاعر صاحب تجربة شعرية مثقلة بهموم الحياة وأفراحها وأتراحها، وقصيدته التي كتبها في مراحل متعددة من حياته، ساهمت في رسم خريطة حضوره في الزمن الذي مازال يسير في مساحته الصعبة.**

أصدر كتبا شعرية عدة، حمل فيها ثمرة احاسيسه وأحواله، وساهمت كتاباته الاخرى في وصف حالته، خصوصا حين اصدر كتابه «أنصار» الذي روى فيه تجربة اعتقاله مع آلاف الاسرى في معتقل «أنصار» الشهير الذي اقامه الاحتلال الاسرائيلي خلال حرب 1982.

ماذا يقول الشاعر اليوم لـ «الراي» عن الشعر والتجربة التي مازال يخوض غمارها؟

• اين انت اليوم، في اي قصيدة تعيش؟

- ما زلت مع القصيدة، احفر في تربتها وأبني في تفاصيلها قصر الحياة الذي اسعى اليه. ما زال الشعر معي وفي خضمّ حياتي، وهو اللغة الاقدر على تفسير الذات. اليوم كما الامس، وربما كما الغد، اعيش في وهج القصيدة، اقطف منها ورداً، وأسمّي نفسي في داخلها. انها قصيدة مستمرة لا تفارق قلبي، مهما تبدّل الزمن وتغيّرت الاحوال. تسألني اين انا اليوم؟ أقول انا هنا وهناك وفي كل الاماكن التي تصرخ وتبحث عن الحياة، عن الامل، عن معنى الاقامة في مساحة التعب.

• تجربتك الشعرية تحمل الكثير من المراحل التي حافظت على وتيرتها التصاعدية، هل ترى انك وصلت الى حيث تريد عبر البوح الشعري؟

- يستحيل الوصول الى بر نهائي، والشاعر مهما حاول الوصول، فهو مستمر في المغامرة، مستمر في البحث، وكلما بحث وجال في الوجود والحياة، ازداد حضوره داخل الرحيل، داخل ذاته، التي لا يمكنها الوصول بقدر ما يمكنها البحث والدوران في المتاهة الواسعة.

اما تجربتي الشعرية فما زلت اتواصل فيها مع سواي من الحياة والبشر، ما زلت ابحث عن المفردة التي تساوي او تترجم وجع الاشياء التي تحاصرني. التجربة مستمرة، والشعر لا يتوقف عند حدود اخيرة. القصيدة مناخي المتبدل في كل الفصول، وهي طبعاً الرئة التي اتنفس منها.

• ماذا تقول اليوم في قصيدتك؟

- قلت الكثير، رسمت حضوري وسط الزمن، بكل ما يحوي، ومازلت اقول، كل الذي يراودني في مساحة الألم. ما اسعى الى قوله اليوم هو صدى الآهات التي عشتها وعبرتها، هذه الآهات مازالت في فم الضحية، التي هي الانسان. وانا جزء من هذا الانسان الذي يواجه التعب والألم في كل يوم.

ما سأقوله غداً قد يُجبر الزمن، زمني، على بناء السدّ ورفع الصوت وتكبير الآهات، ذلك ان ما يجول ويجيش في قلبي وصدري كبير جداً، وله ألوان الرفض والتحدي، وفيه الكثير الكثير من ذائقة الاسى. ستكون قصيدتي غير مربكة بالتأكيد، لكن صداها سيصل الى الاذان غير الصاغية، والى العيون غير الناظرة.

• يبدو انك متذمّر جداً من الانسان والحياة؟

- التذمر فعل امر اعيش في صلبه، اتلقى منه اشارات اخرى تزيد من اسفي ولومي على الانسان، لكن الحياة جميلة، وانا لا اتذمر منها ابداً. الانسان هو الذي يبني حصون الوهم جول نفسه، فيظن انه حقق الحضور الحضاري الا ان ذلك لا يبرهن ابداً المعنى الاصيل في ذاته. ربما يكون تذمري نابعا من حالة حزن او عذاب او تأمل متعب في مشقات الحياة وتفاصيلها، لكن هذا التذمر، حين يولد داخل القصيدة، فإنما يُعبّد الطريق الى الزمن الممكن، الذي يمكن خلاله بناء الوصف التدريجي، الوصف الذي يعطي الجواب المطمئن لصاحبه. وهنا يأتي دور الشعر لرسم هذا التذمر من خصوصية او فرضية ساخرة احياناً ومذهلة احيانا كثيرة.

• هل يعني هذا ان القصيدة قد تكون بديل العذاب والتعب في حياتك، وتالياً تستعيد عبرها ما خسرته في محنتك القائمة او المفاجئة؟

- بالتأكيد القصيدة هي فعل مؤثر وقادر على انتشال الانسان من جحيم عذابه. وبالنسبة اليّ، ارى القصيدة بمثابة المنقذ الذي يمد يده للغريق، فيعيد اليه نبض الحياة، ويزيد هذا الانقاذ من بريق الحياة في عيون الناجي. نعم، القصيدة تعوّض لي كثيرا من خسائري وتعطيني املاً في الحياة، وهي اكثر من امل، انها مساحة حياة كاملة، اعيشها، اعبرها، اتلذذ بها وبتعبها، ولا اتوقف خارج معناها ابداً.

القصيدة حين تكتمل في ايامي تكون بديلا من العذاب والتعب، ترفع وتيرة الامل وتخفف من وطأة العذاب.

• ما مصادر عذاباتك التي تحاول بوح القليل منها؟

- لن اقول انني اعيش الحزن او ما شابه، ولن اقول انني امتهن التعب في مسار الحياة الهالك، ولن اقول انني قلق الى حد القهر، سأقول انني اختبرت فصولاً صعبة من الحياة، تعرفت فيها على نواحي الألم، خسرت عاطفة وربحت عاطفة. والعاطفة المفقودة هنا هي ركن كان يسندني ويساعدني في الحياة، والعاطفة التي ربحتها ظهرت جلياً في عيون ابنتي وابني اللذين عرفا معنى الفقدان باكراً. الحياة ليست لكل الناس كما هي، الحياة صعبة على البعض ومريحة للبعض، وأعتقد ان الراحة هذه تبقى نسبية حتى لو اكتملت في الذوات.

• كيف تسلك مدار الامل وانت في «ورطة» الحياة؟

- اسلك كل المدارات ولا اتوقف. حتى الورطة سلكتها وما زلت اسلكها، ما زلت احمل صورها في تظاهرة صامتة، وصاخبة احياناً. واعاود التذكير بأن الشعر هو الذي يحذف الورطة من خريطة الزمن، والقصيدة هي المدماك الذي يمكن عبره وصف الدواء للأزمة التي تدهم القلب والروح.

لقد سلكت طريقاً وما زلت اسلك سواها، وفي كل سلوك، ثمة محطات، وثمة رايات خفاقة، وانا بين الظلال اتحرك وأساهم في بناء المشهد وبناء الهيكل. السلوك في الحياة جميل مهما كان محفوفاً بالمخاطر.

• في ظل ما تفضلت به، يبرز سؤال عن خصوصية الكتابة التي تنطلق منها، متى تكتب ولمن تكتب وكيف تكتب وما طقوس الكتابة عندك؟

- الخصوصية تتعلق تماماً بالأصل، بالمعنى الذي يولد داخل النص وداخل القصيدة. فظروف الحالة تفرض الشكل واللغة. حتى المفردات تولد من ضمن السياق العالي، الذي يولده المعنى الدفين في نفسي.

ان خصوصية الكتابة تبرز تلقائياً خلال لحظات العيش التي تعبر في حياة الكاتب، وان كان لهذه الخصوصية من آفاق مفتوحة فهي بالتأكيد آفاق تؤدي الى الجمال بكل ما يعني من جمال وفرح ومعنى مفتوح على كل الاحتمالات. اما طقوس الكتابة، فهي جزء مهم من عملية الكتابة، وجزء فاعل لرسم الشكل الذي يحفظ الروح. لا مكان ولا زمان في الكتابة، كل اللحظات تحمل بذور اللغة الاتية من اعماق النفس، وما على الشاعر الا ان يعرف ويترصّد اللحظات المشحونة بهذه الشاعرية، كي يخرجها الى النور، الى اللغة او الورقة البيضاء.