الفعل النبوي... نبراس لـ «الاكتفاء الذاتي»

1 يوليو 2023 10:00 م

خرج مع صاحبه ودليلهما الأعرابي من وطنه ومسقط رأسه وأحب البلاد إليه بعد أن لاقى العنت والمشقة، إلى الأوس والخزرج التي سلّت سيف حرب الجاهلية على نفسها تقطع أكُفها بأكفِها وكلما أرادت أن تخمد نار الفتنة أوقد اليهود فيها ناراً أخرى ليشغلوهم بأنفسهم، إلى أن حقنوا دماءهم وتهادنوا وتصالحوا تاركين التصافي والتلاحم الذي لم يعهدوه بينهم منذ ثلاثين عاماً تأتي به الأيام.

فالتمسوا منذ اللحظة الأولى من عرض النبي، صلى الله عليه وسلم، عليهم الإسلام أن تكون به وحدتهم وبه جمعهم وصلة رحمهم وعزة عزهم، فقدموا له الوطن أرضاً ومهجراً وكانوا له عزاً وناصراً.

وما إن قدِم عليهم، صلى الله عليه وسلم، وطابت به أرضهم وكان به سعدهم وجدهم حتى ضمدوا جراحهم والتحموا وتآخوا ونبذوا كل عصبيةٍ للجاهلية الأولى.

وبعد أن بنوا مسجدهم ودار عبادتهم واجتماعهم ومشورتهم، قال النبي، صلى الله عليه وسلم، للأوس والخزرج أين سوقكم؟ فقالوا عند بني قريظة، فطاف بالأحياء وضرب الأرض وقال (هذا سوقكم فلا ينتقصن ولا يضربن عليه خراج). وبطبيعة الحال امتثل الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- أمر نبيهم وبنوا السوق وأقاموا حدود الله به في بيعهم وشرائهم وما يتناسب ويتوافق وشريعتهم وحدودهم.

ولكن هذا الأمر النبوي في بناء السوق له غاية بعيدة ونظرة فريدة في بناء مجتمع يعرف ما يسمى بـ«الاكتفاء الذاتي»، أي أن يجد ما يريد دون الحاجة والاضطرار إلى أن يتطفل ويكون عالةً على غيره من الأمم يسألها حاجته ولو شراءً... فيكون له سوقه يبيع فيه وفق ضوابطه ويضع فيه منتجاته وحاجاته ولعله يصدّر ويستورد، ولا يضطر لقبول ما يوجد في سوق غيره من غير حول منه ولا قوة بل يكون مشاركاً فعّالاً بين الأمم على طاولة الاحتياجات العالمية.

عند وضع هذا الفعل النبوي تحت مجهر بعد النظر والتحليل في زمننا هذا، سوف نرى بأننا بذلك يمكننا أن نمتلك عصباً للحياة من علمٍ أو معرفة أو صناعة أو ثقافةٍ نستطيع أن نؤثر به مجتمعياً في حركة أشبه ما تكون بالعضو من جسد هذا العالم... عن طريق التصدير والاستيراد لا مجرد الاستهلاك والاتكالية، فالذي يكتفي ذاتياً يحتاج إليه الآخرون، بل ويضع يده في تبادل الاحتياجات البشرية ويكون صاحب قرار ورأي، فمن لا يريد ذلك؟

ولو اكتفينا ذاتياً بطاقاتنا البشرية والتعلم والتعليم والصناعة والزراعة والأساسيات الحياتية من المواد الاستهلاكية وكنا مصدرين لِما هو أساسي في استهلاك المجتمعات الأخرى على الأقل لكفّت الأمم الأخرى عن التعدي على معتقداتنا واحترمت خطوطنا الحمراء، ولم تعتبر التعدي عليها مجرد حرية في الرأي ناهيك عن حرياتنا وآرائنا وأفكارنا.