إنها ليست قضية الضواحي الفرنسية... بل غياب المبادئ الأوروبية

1 يوليو 2023 10:00 م

اندلعت أعمال عنف في فرنسا في الأيام الأخيرة على خلفية قتل شرطي للشاب الفرنسي الجزائري - المغربي الأصل نائل المرزوقي، بسبب عدم حيازته على رخصة قيادة وانطلاقه بسيارته بعد جدال مع الشرطة ومتجاهلاً أمرا بالنزول من السيارة التي كان يستقلّها.

وكذب الشرطيان بإفادتهما الأولى لتبرئة نفسيْهما، مدعييْن ان حياتهما كانت في خطر لولا ظهور فيديوهات تُظْهِر الحقيقة وكيف أطلق أحدهما النار من دون مبرر.

ورغم توقيف الشرطي بتهمة القتل عمداً والكذب واستخدام القوة المفرطة القاتلة، فإن محاولة التستر على الجريمة أفقد الشرطة صدقيتها.

ولم يوقف توقيف الشرطي أعمالَ الشغب التي انتشرت في مدن عدة خصوصاً في الضواحي وتخللها إضرام نيران متعمدة بمتاجر ومدارس وأبنية تابعة للبلدية وحرق سيارات احصيت بـ 2500 حريق.

ونُهبت العديد من المتاجر بشكل غير مسبوق في مدن متعددة في أنحاء فرنسا، وهذا ما دفع الرئيس إيمانويل ماكرون لزج 45 ألف شرطي من أصل 240000 للإمساك بالفوضى، فيما اعتُقل نحو 1400 شخص.

لكن ما خلفية هذه الأعمال؟ ولماذا انتشرت الفوضى كالنار في الهشيم إلى مدن عدة؟ وما سبب غضب الشارع الفرنسي؟

تَعتبر أوروبا أن قِيَمها المشتركة تتمثل في مجتمع يسوده الاندماج والتسامح والعدالة والتضامن والاخوة وعدم التمييز، أي المساواة أمام القانون. وهي تؤكد على صون كرامة الإنسان. ويحمي ميثاق الاتحاد الأوروبي حقوق الحريات الفردية واحترام الحياة الخاصة وحرية الفكر والدين والتجمع والتعبير والمعلومات.

ولكن هذه العناوين المثالية والتي تمثل الهوية الأوروبية أصبحت حبراً على ورق، تُطبق بحسب الظروف والأحداث، وتبقى أملاً يحلم به المجتمع الأوروبي. فلا يمكن بناء مجتمع لا يحترم فيه رؤساؤه القانون المحلي والدولي ولا تُطبَّق مبادئه.

فأحداث فرنسا تتعلق بعدم مساواة «الجمهورية الفرنسية» بين جميع أبنائها كما تشهد التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية على ذلك.

إذ يتم التداول بانتقادات لاذعة موجهة إلى أحياء الطبقة العاملة، أو بالأحرى الضواحي، حيث يصفها الإعلام بالمناطق الخارجة عن القانون وحيث ينعدم الأمن وتوسد الوحشية منذ الثمانينيات والتسعينيات، وهذا ما يجعلها الهدف الأول في الخطاب الأمني منذ أن اندلعت أعمال الشغب في مدينة ليون صيف عام 1981.

وحينها، وليومنا هذا، تُعرف الضواحي وكأنها «المشكلة الاجتماعية المتفاقمة».

ومن الممكن الاستشهاد بقضية الحجاب الإسلامي عام 1989، وبروز تنظيم «القاعدة»، والهجمات على صحيفة «شارلي إيبدو» التي أهانت الدين الإسلامي ونبيه الأكرم، وكذلك أعمال الشغب التي وقعت عام 2005، وقد التقت فيها كلها نقطة «الإسلام المعادي للجمهورية».

ويركّز اليمين المتطرف على «مشكلة الضواحي» التي يغذّيها الإعلام من خلال إبراز قضية إنعدام الأمن - الناتج عن «الهجرة الجَماعية» خارج المدن الكبرى - في الضواحي ويُظْهِرُها وكأنها «في حالة حرب مع سلطة الدولة» وأنها «مركز الإرهاب» والخارجة عن القانون.

وقد أعلنت نقابة الشرطة التابعة لوزارة الداخلية «اننا في حالة حرب. علينا استخدام جميع الوسائل لفرض الأمن».

ولذلك تعتمد السلطات المحلية على نشر عدد أكبر من الشرطة في هذه المناطق.

وقد سُمح للشرطة باستخدام القوة القاتلة عام 2017 إذا شعر رجل الأمن بالخطر على حياته أثناء تأدية واجبه.

ويجد باحثون فرنسيون أن العقوبات، مهما كان نوعها، على سكان الضواحي تتضخم وكذلك أحكام السجون عليهم ما يتسبب بتضخم السجون خصوصاً بين ذوي الأصول الأفريقية والعربية الحاملين للجنسية الفرنسية.

ولتثبيت هذه الإجراءات غير المبرَّرة، أعلنت رئيسة الوزراء اليزابيث بورن عن نشر عربات مدرعة في الليلة الرابعة لأعمال الشعب لتظهر الدولة الفرنسية كدولة بوليسية أكثر ما هي ديموقراطية، تماماً كما حصل مع السترات الصفر قبل أعوام عدة.

بالإضافة إلى ذلك، فقد اتهم الرئيس ايمانويل ماكرون المنصات الاجتماعية بالتحريض على أعمال الشغب، ودعا للعمل على تحديد هوية مستخدميها الداعين لردة الفعل على التدابير التي تتخذها الدولة بزيادة عدد الشرطة وحضها على مواجهة المتظاهرين.

وبدل أن تحاول الجمهورية الفرنسية تحديد المشكلة والاعتراف بها على الطريقة الديموقراطية التي تدّعي أوروبا اتباعها وتحقيق العدالة بين الفرنسيين بغض النظر عن لون بشرتهم ومعتقداتهم، فإن التدابير تدل على التصميم على إظهار الدولة وكأنها تسيطر على الشارع وتعمل على فرض الأمن ومواجهة أعمال الشغب بدل إيجاد صيغة مشتركة وأرضية يتلاقى فيها جزء غاضب من الشعب وأجهزة الدولة الحاكمة.

إلا أن ماكرون يعلم - كما أعلن بنفسه حينها - انه لم يُنتخب من الشعب لأنه الأصلح لهم بل أن الفرنسيين لم يريدوا لليمين المتطرف الوصول إلى الحكم ممثلاً بالنائبة مارين لوبان.

وتالياً فإنه ليس من العجب ان تتواجد هوة كبيرة بين طموحات وتطلعات الشعب الفرنسي وبين قائدهم ورئيسهم.

وقد تجلى ذلك بقرارات اتخذها الرئيس بعيداً عن الديموقراطية - رغم انها قانونية - مثل فرض قانون التقاعد الذي سحبه من البرلمان خوفاً من عدم تمريره لأن الغالبية البرلمانية كانت أعربت عن رفضها له وكذلك رَفَضه عدد كبير من الفرنسيين.

ومن هنا فإنه من غير المفاجئ ألّا تلتفت الدولة لما يحصل داخلياً كما يجب أن تفعل بدل الذهاب نحو مغامرات دولية لا دخل لفرنسا أو لأوروبا فيها، وخصوصاً الحرب على أرض أوكرانيا الدائرة بين أميركا وروسيا والتي أقحمت أوروبا نفسها فيها وهي لا ناقة لها فيها ولا جمل، في حين ان تلاحمها الاقتصادي مع روسيا يعيد توحيد القارة الأوروبية، كما حصل إبان الحرب العالمية الثانية وتقديم روسيا أكثر من 24 مليون مواطن قتلوا لمواجهة الخطر الذي رفعتْه المانيا في وجه الدول الأوروبية خصوصاً فرنسا.

وتالياً فإن فرنسا لم تجد حلاً للضواحي الباريسية والضواحي الأخرى، مثل ليون ومرسيليا وليل وغيرها من المدن التي شهدت اضطرابات عدا عن ضواحي باريس المشتعلة.

بل على العكس، يستحيل اليوم وضع قائمة شاملة بالإجراءات الأمنية التي اتخذتْها الدولة وسياستها منذ هجمات عام 2015 وفرض حال الطوارئ التي أوجدت تمييزاً سكانياً في استهداف مجموعة معينة من السكان حسب لون بشرتهم ودينهم.

وهذا ما فاقم ظاهرة عنف الشرطة التي تم الإبلاغ عن 4800 انتهاك ارتكبتْه مثلاً في عام 2017 ليتم التحقيق في 8 في المئة منها فقط ومعاقبة 58 ضابط شرطة خضعوا للتذكير بالقانون ووُبخوا لتَجاوُزه لا غير.

إذاً إنها ليست «وحشية سكان الضواحي» ولا انعدام الأمن بل انعدام العدل والمساواة والاخوة (وهو شعار الجمهورية الفرنسية) ورفْع الدولة لشعارٍ لا تلتزم به، وعدم احترامها المبادئ الأوروبية التي تبقى حبراً على ورق وتُطبق استنسابياً.