قيم ومبادئ

«تراك صرت شايب»!

25 مايو 2023 10:00 م

إنها كلمة صعبة لكن لابد أن تسمعها «تراك صرت شايب» فقد مضى زمن الصبا وبدأت صفحة جديدة وفتحت ملفاً مع أطباء العيون والعظام والأسنان وغيرهم، واختلفت عندك المقاييس فأصبح الفرسخ ميلاً والباع ذراعاً.

وبدأت تقرأ في الصحف نعي أصحابك الواحد تلو الآخر الذين كانوا معك يلعبون في الحارة، كما رأيت بعض الذين نشأت معهم فأنكرت استحالة شبابهم واغبرار وجوههم وتحدّب ظهورهم وابيضاض شعورهم، وانهم ينكرون في ما أنكرت منهم؟ وبدأ الداعون يدعون لك بطول البقاء والقوة والنشاط... ولكنك تعلم أن قوتك في هبوط ونشاطك في خمول وحياتك على وشك الانحدار إلى الغروب... ولكنك حاولت أن تُجدد حياتك في الجلوس بمجالس الشباب بعدما ركبت أسنان هوليوود وصبغت شعرك واعتمرت الكبوس ولبست البنطال.

ولما جلست معهم وجدت أنها مملوءة بالقوة وتدفق الحيوية والمرح والسرور، فخيل اليّك أنك غريب بينهم لا صلة لك بهم ولا شأن لك معهم؟ وإنك تعيش في عالم غير العالم الذي يعيشون فيه فليست الأولويات هي الأولويات، ولا الهموم هي الهموم ولا التطلعات هي التطلعات ولا السوالف هي السوالف التي كنت سمعها من جيل ما قبل النفط.

وحينئذ، أدركت بكل تأكيد أنك بدأت رحلة العودة والانحدار من قمة الحياة إلى جانبها الآخر، فقد احتجب عنك كل شيء كنت تعرفه وآلفته ولم يبق بين يديك مما أفكر فيه إلا أن أعد عدتي لتلك الساعة الآتية لا ريب فيها والتي انحدر فيها إلى قاع قبري... إنها الكلمة التي يجب أن تسمعها ويسمعها غيرك ما نصحك به الناصحون بالاقتصاد والتدبير إبقاء على مصلحة أبناءك الفقراء وأحفادك وكأنهم يقولون لك إنك موشك أن ترحل فأعدّ لمن وراءك من أهلك وبنيك ما يغنيهم عنك يوم يفقدون وجهك... فهدأت نفسي بعد جماحها فتحولت حالتي واقتنعت تماماً في أولوياتي للمرحلة النهائية فأصبحت سمحاً وسهلاً كريماً لا أحقد على أحد ولا أعمل من الحبة قبة، ولا أقابل الإساءة بمثلها، ولسان حالي يقول مالي وللعالم وما يحويه من خير وشر وأنا عما قريب مفارقه مفارقة لا رجعة فيها أبداً.

فطاف في ذاكرتي كالطيف السريع شريط الذكريات فبكيت حين ذكرت أيام المذاكرة مع زملائي في الغرفة البسيطة بلا تكييف وبمروحة... فلم أنسها رغم جلوسي اليوم في منزلي الأنيق وتذكرت نهمي في القراءة والمطالعة... فسلام عليك أيها الشباب الذاهب... أبكيك لأني كنت أرى فيك العالم كله في سمائك، أما اليوم فلم أعد أرى فيك شيئاً مجدياً... أبكيك يا عهد الشباب ليس لأنني تلذذت بملاذ الحياة المحرّمة ولا نلت في عهدك مآرب المجد والشهرة أو الجاه والمنصب، ولا لأنني ركبت مطيتك في لهو ولعب ولا لأنني ذقت حياة المترفين الناعمين بل أبكيك لأنك كنت الشباب وكفى!

سلام عليك يا فرجان الكويت القديمة شرق وجبلة والمرقاب والحديقة التي كنا نلعب في دوحتها ونمرح مرح الظباء في رملتها الوعثاء، فكأن العالم مملكتنا الواسعة التي نسيطر عليها ونتصرّف في أقطارها حيث شئنا غدواً وعشياً.

سلام عليك أيها الماضي الجميل لقد كنت لنا ميداناً فسيحاً رغم ضيق البيوت... فلا نشكو ولا نتألم ولا نعترض ولا نسأم... وكان كل شيء حولنا جميلاً (السّيف) وشاطئ البحر والفرضة القديمة والقهوة والمساجد، بل حتى الحاجة والفاقة والفقر بل حتى الرز (العيش المشخول) ودقوس الطماط كان لذيذاً... حقاً لقد كان كل منظر من مناظر الكويت القديمة قد لبس ثوباً قشيباً من نسيج زمن صفاء القلوب والأرواح والأبدان ولكنه أصبح اليوم جزءاً من التاريخ، فتغيّر الزمان وتعكر صفو المكان.

وليس الهم عندي متى يأتيني ملك الموت، فالموت غاية كل حي ولكن الأهم على أيّ حال تموت؟ وأمامك عالم مجهول لا تعلم ما حظك فيه... وداعاً يا عهد الشباب فقد ودّعت بوداعك الحياة وحينها تذكرت (اغتنم شبابك قبل هرمك).