«النزاع على جبل لبنان».. مكرم رباح يحفر في الوعي ويزرع في المستحيل

25 مايو 2023 02:25 م

أدّعي أنني كنتُ من الذين «زنّوا» و«حنّوا» على مكرم رباح كي يُنْجِزَ رسالةَ الدكتوراه الخاصة به من جامعة جورج تاون، لا لكي يتحصّل على رتبةٍ علمية يّستحقّ أكثر منها، وإنما لأن اللبنانيين والعرب بحاجة إلى مقارباتٍ جديدة من خارج الصندوق، تشرح ما حصل وتضيء على ما سيحصل من أحداث وتطورات بعيداً من الصورة النَمَطية التي يزرعونها في المخيّلة من خلال سردياتٍ متقاربة الهدف، وبعيداً من تاريخ يُكتب على أساس إجماعِ الروايات ما أمكن ومسايرةِ التوافُقات، وبذهنيةِ دفْنِ تفاصيل يمكن أن تؤدي من وجهة نظر مؤرّخيها إلى زيادة أحقادٍ وشحْن نفوس.

«النزاع على جبل لبنان... الذاكرة الجماعية وحرب الجبل»، ليس مجرد كتابٍ أو رسالة دكتوراه. هو كشافٌ يضيء في مسالك أخرى لا علاقة للدروب والتواريخ السابقة بها. بذرةٌ غُرستْ في تربةِ عقليةٍ يُفترض أن تتقبّلها كي تتفاعل معها وتينع نبتةً جديدةً كلياً... لكنها لن تورق إن بقيتْ تلك التربة على عهد الانحياز للسائد ومقاومة التغيير.

مثل الدخول من فتحةٍ ضيقةٍ في حدقةِ العين إلى رحاب لا حدود لها من المشاهد، يَعبر مكرم رباح في كتابه من وضْع العلاقة الحالية بين مكوّنيْن لبنانيين، أي الدروز والموارنة خصوصاً، إلى حرب الجبل بعد الاحتلال الإسرائيلي، ومنها إلى العلاقات الدرزية المارونية خلال حرب السنتين، ومنها إلى العلاقات السياسية ما قبل استقلال لبنان وبعده، ومنها إلى وضْع هذين المكوّنيْن ما قبل الرعاية التركية والمتصرفية وما بعدهما وأدوار بشير الشهابي وفخر الدين، ومنها إلى المنطلقات الدينية والاجتماعية التاريخية لكل مكوّنٍ وعلاقته بالأرض وبالمكونات الأخرى.

والمفارقةُ في الكتاب أن هذه المراجعات والاستعادات لا تشكّل حالة «فلاش باك» في الذهن على اتساعِ مَشاهدها وعُمْقِ تفسيراتها وعلميةِ التعاطي معها، بل تدفعكَ دَفْعاً إلى التفكير في مستقبٍل مختلفٍ مبني على حقائق نَبَشَها الكاتبُ من مَقابر التجهيل ثائراً على أسلوب التأريخ الذي شكّل منظومتَنا الفكريةَ عربياً ودينياً. حربُ الجبل لدى الغالبية سببُها المباشر في الصورة النمَطية قذيفتان أطلقتْهما القواتُ الاسرائيلية لدى انسحابها على قريةٍ درزية وأخرى مسيحية. حرب 1860 في الصورة نفسها سببُها خلافٌ بين طفليْن يلهوان. هكذا كان التاريخُ يَدخل أفكارَنا إما للقول إن اللبنانيين ملائكةٌ ويعشقون بعضَهم وإن كان هناك من خلافٍ فمردُّه إلى «الخارج»، أو أن أحداثاً جساماً حصلتْ إنما كانت بسببٍ تافه بين طفليْن وصبّ الخارجُ زيتَه على نارها.

«قُلْ الأمورَ كما حصلتْ كي تتحرَّر منها»، لكننا قرأنا التاريخَ موجَّهاً وكأنه توليفة توافق بين مجموعة سرديات. هنا في كتاب مكرم يَدخل الصوتُ إلى جانب الصورة، بمعنى الشهادة الحية من أحياء في غالبيتهم أرّخوا اللحظةَ على ما اعتَبر البير كامو. تحدّث مع المُقاتِل والضحية ووليّ الدم، تحدّث مع العنصر والمسؤول وقائد الفرقة (وما أكثرهم آنذاك)، تحدّث مع الفاعلين في مستويات مختلفة ناقلاً الذاكرة الجَماعية إلى التبلْور كما في أشرطةِ أفلامِ كاميراتِ التصوير التي توضَع في محلولٍ معيّن، ومؤسِّساً لتاريخ شفوي من خلال مقابلاتٍ كثيرة «فكل واحد ممن قابلتُهم تَشارَكَ معي وبِنِسَبٍ متفاوتة تجربتَه الشخصية وضلوعه في الأحداث المعنيّة بهذه الدراسة». منوّها إلى أن بعض المصادر الشفوية «لم تكن من إنتاجي الشخصي بل حصيلة مشاريع متنوّعة على امتداد سنوات طويلة». وكي يبقى موضوعياً، يعترف بأن بعض هذ المشاريع «كان ذا طبيعة محازبة والتزم خطاً سياسياً معيّناً في بعض الجهد التذكّري الجَماعي سواء اضطلع به موارنةُ القوات اللبنانية أو دروزُ الحزب التقدمي الاشتراكي».

طوّع مكرم رباح كل التاريخ الشفوي لخدمةِ الموضوعية التي أَرادَها نهجاً جديداً في مقاربة تلك الفترة. استطاع كمايسترو بارع أن يوظّف كل التباينات والآراء والأهواء الشخصية لمصلحة الفكرة الرئيسية التي سلّط الضوءَ عليها، فلم يخرج القارئ من السياق العام مهما كان متعاطفاً مع هذا الفريق أو ذاك، إنما بقي متشوِّقاً للمضيّ في طريقٍ مستقيمٍ نحو معرفة ما جرى ولماذا... والأهمّ، هل استفاد اللبنانيون بِتَحَضُّرِهِم وهَمَجِيَّتِهِم مما حصل؟

لم يَترك الكاتب تفصيلاً كبيراً أو صغيراً إلا وأتى على ذكْره كي يَخرج بعملٍ متكامل. سواء كان وثيقةً مهمةً أو حديثَ سيدةٍ عجوز على سجيّتها. نتائجُ مؤتمر أو خلوة أو اجتماع، وخلاصاتُ لقاءٍ عسكري تحضيري لمعركةٍ، وشهاداتٌ عن المعركة نفسها وقتلاها بل وموْضع الرصاصات في جسد المصابين. وعندما يصبح عندك «كشاف» يحدّد المعايير ويساعدك على التفسير والتحليل، تدرك الخلفيةَ التي تجعلك تَفْهَمُ تَمَوْضُعَ الدروز والموارنة في مواقعهما السياسية وخنادقهما الحربية، وتَفْهَمُ ردودَ الفعل على اغتيال زعيمٍ بحجم كمال جنبلاط أو بشير الجميل، وتَفْهَمُ أسبابَ حرب الجبل ووحشيّتها المختصرِة لعقودٍ من الاحتقان... وعلى هامش ذلك كله تَفْهَمُ أكثر بلداً اسمُه لبنان ومنطقةً اسمُها مشرق.

تبقى إشارةٌ مهمة الى التعريب العظيم للكتاب لغةً وسرداً ومضموناً، وهو ما قامت به الدكتورة رلى ذبيان التي يبدو أنها أَحَبَّتْ النصَّ واعتبرتْه عملاً شخصياً كتبتْه بدقّةٍ وشغف.

«النزاع على جبل لبنان... الذاكرة الجَماعية وحرب الجبل»، ليس مجرد كتابٍ أو رسالة دكتوراه. هو منصةٌ تأسيسيةٌ لِما كان، وطريقاً تنويرياً لِما يجب أن يكون. إنما الأملُ بالتغيير في بلدٍ مثل لبنان، يرزح تحت احتلالِ طَبَقَةٍ حاكمة وعبوديةٍ طائفيةٍ، صعبٌ جداً إن لم يكن مستحيلاً.

حسب مكرم أنه زَرَعَ، وواجِبُ المخلصين تأمين بيئةٍ ملائمةٍ للحصاد.