بكين لا تخشى واشنطن وحسمتْ خياراتها وأميركا تريد إخافة الصين لا الحربَ معها

30 مارس 2023 06:00 م

تتحضّر الولايات المتحدة لرفْع سقف التوتر مع الصين في سياق مواجهة محتملة، كما قال قادة «البنتاغون» وبعد موافقة الكونغرس على ميزانية الدفاع المقترحة والبالغة 842 مليار دولار لتحديث الأسلحة انطلاقاً من المنافسة الإستراتيجية مع بكين.

وتشتمل الميزانية الجديدة على 9 مليارات دولار إضافية لبناء القدرات العسكرية في المحيط الهادئ وبحر الصين وتهيئة لخوض الحرب «إذا لزم الأمر» - كما قال رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي – و«لبقاء أميركا في المرتبة الأولى» (علمياً).

غير ان الولايات المتحدة لا تستطيع مواجهة الصين لأسباب عدة، أولها انه لا توجد أسباب مُقْنِعة لهذا الخيار تستطيع تقديمها لشركائها وللشعب الأميركي.

وثانيها ان الصين لم تتخذ أي موقف عسكري عدائي تجاه الولايات المتحدة بل العكس هو الصحيح، وتالياً فإن الصراخ الأميركي المرتفع ينمّ عن خشية من انضمام المعسكر الصيني الحربي إلى روسيا في وقت تتقدّم القوات الروسية على أرضِ المعركة في أوكرانيا رغم تعاون أكثر من 40 دولة حليفة لواشنطن ضد موسكو.

يُلاحَظ تقدم روسي بطيء، غير أنه ثابت، في أرض المعركة، مردّه إلى أن الكرملين قرر خفض الخسائر البشرية في صفوف قواته النظامية عبر تسليم المعركة - كرأس الحربة المندفعة - إلى قوات «فاغنر» مدعومةً من الجيش النظامي في الخلف والذي تقتصر مهمته على تثبيت الجبهات والمحافظة عليها.

وهذه القوات الرديفة المتعاقدة مع وزارة الدفاع تَستخدمها الجيوش الكبرى، مثلما فعلت أميركا في إستخدامها منظمة «بلاك ووتر» في العراق وحالياً في سورية ودول أخرى حول العالم.

وتُعد هذه قوات خبيرة لأنه سبق لها أن قاتلتْ وخرج عناصرها من وحداتهم القتالية الرسمية بسبب التقاعد أو بسبب الإغراءات المالية التي تتلقاها الفِرق المتعاقدة الخاصة.

من هنا تستعين موسكو بـ «فاغنر» لأن ساحة المعركة المندفعة لا تحتاج إلى قوات كبيرة على جبهة حرب المدن وبالتحديد باخموت وما بعدها، وهو ما يقلل الخسائر البشرية ويبطئ التقدّم العسكري في أرض المعركة.

وتستخدم روسيا الجيش النظامي للتحصين والدعم الناري البعيد، وكذلك تستعين القوات المقاتلة بسلاح الطيران عند الحاجة، على الرغم من ان دول «الناتو» دفعت بكل الأسلحة المناسبة لتحييد الطيران الروسي الذي لجأ إلى إستخدام الطائرات المسيَّرة والإنتحارية والقصف الصاروخي والمدفعي الدقيق والبعيد المدى.

وهذه هي الإستراتيجية الحربية الجديدة المتبعة، بحسب الأرض والمناخ والأسلحة المتوافرة وطبيعة المعركة ونوع الأسلحة التي يستخدمها الطرف المدافع على المقلب الآخَر.

وتستعد روسيا لضم مئات آلاف المتطوعين الجدد بعد تسليحهم وتجهيزهم لأن المعركة ما زالت على أشدها ولا إشارات حسية لتوقفها. وهذا يخفف النقمة الداخلية على الرئيس فلاديمير بوتين الذي يتجنّب الدعوة للتجنيد الإجباري رغم إصرار غالبية الروس على إكمال الحرب في وجه حلف شمال الأطلسي (الناتو).

ولرفع مستوى المواجهة مع الغرب، أعلن بوتين نيته إرسال أسلحة نووية تكتيكية إلى بيلاروسيا «كما تفعل أميركا في القارة الأوروبية»، بحسب الرئيس الروسي.

ويقصد بوتين أن الولايات المتحدة تنشر أكثر من مئة رأس نووي في بلجيكا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وتركيا.

إلا أن منسق السياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل حذّر من وضع أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا، معتبراً ان هذا يعني «تصعيداً غير مسؤول وتهديداً لأوروبا وان الاتحاد الأوروبي على استعداد للرد بفرض مزيد من العقوبات».

وإذا صح القول إنه لا توجد رؤوس نووية ديموقراطية وأخرى ديكتاتورية، فإن من المستبعد أن تقوم أوروبا بفرض عقوبات مؤثّرة على روسيا، وتالياً فإن الخاسر الأكبر سيكون أوروبا التي تنتشر فيها الأسلحة النووية، والتي تهدف إلى توجيه الضربة النووية الأولى في حال حرب كبرى بين الدول العظمى.

رغم أن القارة الأوروبية لا تحتاج إلى قنابل نووية، لأن فرنسا وبريطانيا تملكان مئات القنابل النووية للدفاع عنها، ولذا فإن أميركا تستخدم الساحة الأوروبية لتوجّه ضربة إلى روسيا من القارة القريبة، أملاً بأن تكون أوروبا وليس أميركا ساحة التبادل النووي.

وثمة مَن يرى ان خطوة موسكو في اتجاه بيلاروسيا جاءت رداً على قرار بريطانيا الأسبوع الماضي بتزويد أوكرانيا بدبابات تَستخدم قذائف خارقة للدروع تحتوي على اليورانيوم المنضب.

إذاً، فإن تغييرَ خطة الهجوم الروسية منذ أيام المعركة الأولى والإعلان عن أهداف متواضعة (السيطرة على 4 محافظات أوكرانية والعدول عن السيطرة على كييف) والبطء في أرض المعركة وعدم الاعتراض والابتعاد عن ردات الفعل القاسية تجاه إمداد الدول الغربية أوكرانيا بالأسلحة المتعددة الفتاكة، كل هذه العوامل أعطت أميركا الانطباع بأن الجيش الروسي أضعف مما كان يُعتقد وأن هزيمته في أرض المعركة ممكنة، ولهذا يجب التوجه نحو إرهاب الصين لتبقى بعيدة عن دعم روسيا عسكرياً.

ومما لا شك فيه ان الجيش الروسي أثبت حاجته إلى التطور وإلى تعلُّم متطلبات المعركة الحديثة.

وقد برزت في الأشهر الأولى من المعركة، الهوة بين طموح أصحاب القرار السياسي في موسكو وإمكانات الجيش.

إلا ان الكرملين أدرك ذلك وبدأت المصانع العسكرية تعمل بطاقةٍ كاملة ومتواصلة ترقى إلى مستوى شبيه بأوقات الحرب الشاملة.

وبدأ الجيش الروسي بتحديث نفسه وأساليبه القتالية لتحاكي متطلبات المعركة الجارية والاستغناء عن الحرب الكلاسيكية التي تعود مدرستها إلى الحرب العالمية الثانية.

ومن الواضح أيضاً ان لأميركا خبرة قتالية واسعة بسبب حروبها المتعددة التي خاضها جيشها بينما لم يخض الجيش الروسي أي حرب حقيقية طويلة ومتطورة ولم يجبه الغرب مجتمعاً باستخباراته وأسلحته وتكتيكاته العسكرية منذ زمن بعيد جداً.

لكن ذلك لا يعني ان روسيا ستتقبل الخسارة في هذه الحرب بالذات، كما جرتْ العادة أن تفعل أميركا.

فالجيش الأميركي انهزم في أفغانستان وانسحب، وكذلك فعل الشيء عينَه في العراق بعد سقوط صدام حسين وتَصادُم القوات الأميركية مع «المقاومة العراقية» ما أدى إلى انسحابه.

هذا الخيار التراجعي غير مطروح اليوم بالنسبة إلى روسيا لأنها لا تقاتل أوكرانيا فقط.

فالولايات المتحدة أعلنت مراراً انها تعمل لهزيمة روسيا وكسْر إقتصادها. وكذلك صرّح عدد كبير من المسؤولين الأوروبيين، وعلى رأسهم وزيرة خارجية ألمانيا آنالينا بيربوك، بأنهم في «حرب مع روسيا».

من هنا فإن خسارة موسكو ليست خياراً مطروحاً وهي استطاعت السيطرة على 100 ألف كيلومتر مربع من الأراضي الأوكرانية، وتالياً فإن خسارة أميركا أيضاً غير واردة عسكرياً، إلا أنها لم ترسل جنودها للقتال المباشر بل تفعل ذلك من خلال حرب بالوكالة وعبر تقديم إمكاناتها العسكرية والاستخباراتية والتدريبية والمالية للأوكرانيين.

ويَبقى الجانب الأهمّ وهو الاقتصاد. فإذا انهارت روسيا اقتصادياً فإن المعركة تنتهي بانتصار أميركا وحلفائها.

لكن بكين تعلم أن أي خسارة لموسكو تعني أن «الناتو» سيتوجّه لإخضاعها وستكون معركة الإخضاع شرسة لأن الدولَ المحايدة اليوم التي لم تلتزم بالعقوبات الأميركية على روسيا لن تستطيع مجابهة أميركا وحلفائها إذا خسرت روسيا.

وهناك دول عدة رفضت الانضمام للمعسكر الغربي لأنها على يقين أن بوتين لن يستسلم وسيقاتل حتى تحقيق أهدافه، وتالياً كسْر إرادة الغرب مجتمعاً.

وهذا ما تسبّب بتمرد دول عدة، في أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط، على الهيمنة الأميركية التي لم تَعُدْ مطلقة.

إذاً فإن من مصلحة بكين ألا تنهزم موسكو اقتصادياً. وهذا ما ذهب ليؤكده الرئيس الصيني شي جينبينغ خلال لقائه نظيره الروسي في موسكو.

وتالياً فإن الصين تستطيع دعم روسيا اقتصادياً وليس عسكرياً كي لا تقع تحت وطأة العقوبات الغربية ويتقلص اقتصادُها وتتأثر علاقتها التجارية المهمة مع هذه الدول.

وتتجنّب الصين إثارة غضب الغرب - من دون التأخر بانتقاد سياسة هذه الدول في شكل لم يُعهد سابقاً - الذي وضع عليها نحو 600 عقوبة ولكنه لا يستطيع معاقبتها لمجرد تعاونها الاقتصادي مع روسيا التي ما زال أكثر من نصف العالم يتعامل معها.

هذه البانوراما لا تعني انتهاء الأمبراطورية الأميركية، بل ان ما يحصل اليوم يمثل تحدياً لها وليس هزيمةً لقواتها العسكرية.

وبخسارة معركةٍ مهمة مع روسيا - وليس الحرب - يتعرّض الدولار الأميركي للتحدي، ليس لكسْر هيمنته على العالم، بل لأن تنوّع العملات الرئيسية والمحلية في خيارات الدول بالتعامل في ما بينها ومع دول عدة أخرى تجارياً واقتصادياً بعيداً عن الدولار الأميركي وحده يمثل سابقةً جديدة سببها عسْكرة الدولار والتهديد بقطعه عن الدول غير المطيعة.

وهذا ما قد يتسبب بفقدان واشنطن سلاح العقوبات الذي ترهق به الشعوب، مثل كوبا وفنزويلا وإيران وسورية ولبنان وروسيا، عدا عن عدم التزام الدول، العقوبات الاحادية الأميركية غير القانونية بحسب القانون الدولي.

وكان الرئيس الروسي أكد انه مستعد لاستخدام اليوان في تعامله مع الصين وأفريقيا وأميركا اللاتينية ليوجه ضربةً كبيرة لسلاح العقوبات الأميركية.

وهذا ما دَفَعَ دولاً نفطية في الشرق الأوسط إلى بدء التعامل باليوان الصيني، تماماً كما تفعل الهند، وهي دول حليفة للولايات المتحدة ولكنها لا تريد الالتزام بمبدأ العقوبات بسبب تَضارُب هذه التدابير الأميركية مع مصالحها الاقتصادية.

دول عظمى مثل أميركا وروسيا والصين لا تستطيع الخسارة إذا دخلت في حرب عسكرية مع بعضهما البعض إلا بعد تدمير نصف الكرة الأرضية.

إذاً لا توجد مواجهة عسكرية آنية مع الصين لأن الأضرار أكبر من أن يتحمّلها العالم.

إلا أن معركة أوكرانيا ستغيّر العالم، ولكن نتائجها لم تَظهر بعد لأن الحرب ما زالت دائرة والمفاجآت ما زالت حاضرة بسبب تقدم الروس في أرض المعركة وخسائر أوكرانيا المتتالية ولكن مع عزْمها على مواصلة القتال.

وتالياً ما زال غير واضح المستوى التصعيدي الذي من الممكن ان تذهب أو تتدحرج إليه الأمور نحو الأسوأ.

إذاً، إن التحضير الأميركي العسكري ما هو إلا حركة توسعية من دون أن يكون هذا التوسع «رسالة حرب» إلى الصين، بل هي إنذار بألا تخرج بكين كلياً عن العباءة الدولية لتنضمّ إلى المعسكر الروسي.

لكن الصين حسمت خيارها: استيعاب تايوان، تقديم الدعم الاقتصادي لروسيا، الانفتاح على العالم وبناء علاقات متينة مع دول القارة الأفريقية وأميركا اللاتينية، والتحضّر لتوجيه رسالة لأميركا بأن التنين الصيني لا يُخْرِج مخالبه ليستخدمها ولكنه لا يخشى مواجهة النِسر الأميركي.