خبير دولي لـ «الراي»: لا إنقاذ للبنان واقتصاده بلا التزام الإصلاحات

16 أكتوبر 2022 08:44 م

بمنأى عن الجدال الداخلي المحتدم حول هويات «أصحاب الفضل» في إنجاز ملف ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل، تظلّ تطلعات المقيمين في لبنان، من مواطنين ونازحين، مشدودةً إلى نبْش «إبرة» المكاسب الحياتية المأمولة في كومة القش التي يراكمها أهل السلطة والتي أدخلتْ الجميعَ في متاهة جدليات عقيمة، وسط مؤشر نقدي مقلق يتمثل بارتقاء سعر الدولار الى عتبة 40 ألف ليرة، ومعزَّزاً بإشاراتٍ صادمة لشروع التجار باعتماد سقف تسعير تحوّطي عند 50 ألف ليرة لكل دولار.

وفي الظاهر، حكمت المصادفة البحت تَزامُن التحولات المستجدة عشية السنة الثالثة لاندلاع ثورة 17 أكتوبر، والتي نجحت بالحد الأدنى في كشف الأقنعة عن عورات النظام والمنظومة، فضلاً عن فضْح زيف سياسات التستر على نهب مقدرات الدولة والاقتصاد وسلب المدخرات والمحاصصة الكامنة على حساب اللبنانيين وعيشهم وحتى خبزهم اليومي. فيما ينحو المضمون الى روابط وثيقة بين الحدثين، نظير المخاوف المُحِقّة من تَلازُم «المسار والمصير» بين تبديد احتياطات ومدخرات بعشرات مليارات الدولار خلال سنوات الانهيار، وبين التهافت المنظورعلى جِلد «الدب الغازيّ» قبل صيده.

ولا يحتاج الاستنتاجُ المسبَق، بحسب اقتصاديين وخبراء استشارتْهم «الراي»، الى إثباتات جديدة. بل يمكن الاستدلال عليه بيسرٍ من خلال حيثيات إدارة ملف المفاوضات مع إدارة صندوق النقد الدولي. فبعد نحو 30 شهراً من الأخذ والرد، تعجز الدولة عموماً والحكومة خصوصاً عن تقديم التزام صريح وجدي بالإصلاحات الهيكلية المنشودة، بل هي تدأب على التنصّل التام من مسؤوليتها في احتواء الجزء الأكبر من الخسائر المحقَّقة والموثّقة بعجوزات موازانات ومَراسيم إنفاقٍ وصرْف سلفاتٍ لمؤسسة الكهرباء، وتراوغ عبر خططِ معالجةٍ مبهَمة وغير مكتملةِ الإحداثيات والاستهدافات.

ويؤكد الخبير الدكتور جو سرّوع، وفي رصيده سنوات طويلة من العمل في بنوك تجارية واستثمارية دولية ومحلية، أن سوء إدارة الملف من الجانب اللبناني وما يرافقه من سياساتٍ كيدية، لا يزال يعاكس تماماً الرغبة الصريحة لدى إدارة الصندوق في استكمال الاتفاق الأوّلي الذي تم إبرامه مع الجانب اللبناني على مستوى الموظفين منذ أكثر من 6 أشهر، توخياً لبدء تنفيذ البرنامج التمويلي الذي جرى تحديد مبالغه مسبقاً بنحو 3 مليارات دولار على مدى 46 شهراً.

وفي حديث مع «الراي»، يشير سرّوع إلى الإقرار المبكر بحجم الفجوة المالية والتباري في تضخيمها من المُفاوِض اللبناني، أي الحكومة، ومن دون تبصُّرٍ للنتائج المترتّبة على الاستناد إلى بعض الخبراء بعينهم، والذين صدّوا عمداً أي مُشارَكات أو إسهامات تَشاوُرية مع أصحاب الشأن، من الهيئات الاقتصادية الى البنك المركزي ومكوّنات السلطة النقدية، وصولاً الى الجهاز المصرفي. وبذلك انقلبت الوضعية الأولية الى استسلامٍ تام ومسبق لمعايير «معلّبة» وجاهزة ليس بمقدور البلد واقتصاده تحمّلها، ولا سيما لجهة تقديرات الخسائر وكيفية توزيع أثقالها لتصيب خصوصاً المودعين في البنوك.

ولم يغيّر السقوطُ المشهود للخطة الحكومية الأولى تحت ركام الانفجار الكارثي في مرفا بيروت في 4 اغسطس 2020، حَرفاً وازناً لا في المنهجية المتبعّة ولا في المقاربات. بل ان المماطلة المرتكزة على المنطلقات ذاتها، أفضت، وفق تحليل الخبير الاقتصادي والمصرفي، الى ارتفاعٍ مضطرد في حجم الخسائر التقديرية لتتعدّى مستوى 75 مليار دولار. ولا نزال في المربع الأول، فالاتفاق الموعود مرهونٌ بالتزامٍ جدّي بالاصلاح، وما من إشارات ضامنة لاحترام هذه المعادلة وسلوك الدولة هذا الخيار الاستراتيجي في المدى المنظور.

استتباعاً وربْطاً، لا يحتمل التوجّس من «نيات» المنظومة، أي افتراءٍ أو تشكيك في غير موضعه. إنما الهدف من إعلائه الى موقع الصدارة من قبل الاقتصاديين والخبراء هو تحذيرُ مَن ينبغي تحذيرهم إلى ضرورات التَوازي بين اكتشاف الثروة النفطية والغازية وبين وضْع نظامٍ صارم لإيداعها وإدارتها خارج متناول سلطاتٍ تحترف أكل أكتاف المواطنين ومدخراتهم ومقدرات الاقتصاد الوطني، وتتخلى عنهم وعن أدنى واجباتها في نكبتهم المصنوعة بأيدي السلطات عينها.

وفي المقابل، يؤكد الخبراء صحة معادلة «ان ما بعد الترسيم ليس كما قبله». فثمة معطياتٌ استراتجية يزخر بها هذا الملف المفصلي، وهناك ضوء خافت أَبْصَره اللبنانيون في نهاية النفق المعتم الذي تم حشرهم فيه، ويجري بموجبه تدجينهم على نمطِ عيشٍ بدائي لا يحرمهم فحسب من كامل الخدمات العامة، بل يَسوقهم الى خيارين لا ثالث لهما، إما ذلّ العيش في وطنهم، وإما الهجرة القسرية. ولذا ينبغي عدم التقليل من أهمية الإنجاز على حاضر البلد ومستقبله.

وريثما يستشعر المقيمون بـ «حلاوة» النفط الكامن في أعماق المياه الاقليمية للبلد المنكوب، تتوافق تحليلات الخبراء على توصيف عدد من الوقائع الاستراتيجية المحقّقة، وفي مقدمها بدء مرحلة التحول الكبير من حال التوتر الدائم المقلق على الحدود الجنوبية، إلى وضعية استقرارٍ مرشّح لاكتساب صفة الاستدامة، وبموافقة الأطراف المؤثرة ومباركتها، وإمكان دخول لبنان لاحقاً نادي الدول النفطية، معزَّزاً بتثبيت قناعة وإجماع داخلي بأن الدولة، ككيان وكمؤسسات دستورية، هي وحدها مرجعية القرار وإصدار المراسيم والتراخيص وإبرام الاتفاقات الدولية، ومن مسؤولياتها حصراً إدارة هذا الملف بمؤسساتها لا بهويات القيّمين عليها. واستتباعاً فمن أول واجباتها البديهية إقرار تشريعٍ بإنشاء الصندوق السيادي للثروات المرتقبة وفق معايير دولية تقوم على أرقى مبادىء الحوْكمة والشفافية.

كذلك، يشير المراقبون الى أهمية عودة لبنان الى دائرة الاهتمام الدولي من أكبر بواباته وأكثرها تأثيراً، والمترجَمة بالوساطة الأميركية التي أفضت إلى الإنجاز، وترجيح «الرعاية» الطويلة للمراحل المقبلة، ناهيك عن الاستجابة الفرنسية لتثمير الانتاج ومواكبته من قبل شركة «توتال» التي أبلغت إلى السلطات اللبنانية انخراطَها الفوري في موجبات الاستكشاف والحفر في مكمن «صيدا- قانا»، مع التعهد بتلبية المطالب الخاصة بالجانب الإسرائيلي في الجزء المتعدي للحدود من الحقل الموعود (جنوب الخط 23).