غيّر ميخائيل غورباتشوف الذي رحل عن 91 عاماً، العالم، لكنّه لم يستطع تغيير روسيا التي بقيت أسيرة أوهامها وعقدها والإصرار على العيش في الماضي، في ظلّ زعيم متسلّط.
نجح غورباتشوف في التعاطي مع الواقع بدل الهرب منه على عكس ما يعشقه الشعب الروسي بأكثريته الساحقة. جعله ذلك رجلاً منسياً في بلده الذي لا يزال هائماً بمرضى نفسيين من نوع فلاديمير بوتين يستطيعون تسويق الأحلام من نوع استعادة الاتحاد السوفياتي وأمجاده.
تكمن أهمّية غورباتشوف، أحد أهمّ صانعي الأحداث في القرن العشرين، في أنّه فهم باكرا أنّ تجربة الاتحاد السوفياتي كانت تجربة فاشلة وأنّ ليس في الإمكان إنقاذها، لا عن طريق «بيريسترويكا» (الإصلاحات) ولا عن طريق «غلاسنوست» (الشفافية).
لا ينفع شيء في معالجة عملاق ينتج الصواريخ والسلاح النووي فيما يقف شعبه في الطوابير لشراء الخبز.
جرى تفكيك الاتحاد السوفياتي على يد غورباتشوف، الذي أصبح أميناً عاماً للحزب الشيوعي السوفياتي في العام 1985، عندما وقع وثيقة مشتركة مع رئيسي بيلاروسيا وأوكرانيا أواخر العام 1991.
قبل ذلك، سقط الاتحاد السوفياتي مع سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989.
جلس غورباتشوف يتفرّج بعدما وفّر بعض الحرّية للشعب الروسي وبعدما فقد الأمل في بقاء الاتحاد السوفياتي حيّا يرزق.
تبيّن أن جمهوريات البلطيق ترفض البقاء في الاتحاد.
تمردت شعوبها في لاتفيا وليتوانيا واستونيا. لم ينفع قمع التمرّد الذي تولته الأجهزة الأمنية السوفياتية من دون علم الأمين العام للحزب، أي غورباتشوف.
استعادت دول عدّة استقلاها بفضل غورباتشوف. ساهم في إعادة تشكيل العالم ورسم خريطته.
لم يقتصر الأمر على الجمهوريات السوفياتية السابقة، من بينها دول البلطيق وأوكرانيا والجمهوريات الإسلاميّة في آسيا.
تحرّرت دول أوروبا الشرقيّة التي فرض ستالين عليها، في ضوء انتهاء الحرب العالميّة الثانيّة، نظاماً أمنياً متخلفاً بعيداً عن أي إنسانيّة.
عادت بلغاريا دولة مستقلة، كذلك تشيكوسلوفاكيا التي انقسمت إلى دولتين (تشيكيا وسلوفاكيا) بطريقة ودّية.
عادت هنغاريا دولة مستقلة أيضا مع بولندا التي عانت أشدّ المعاناة من المانيا النازية والاتحاد السوفياتي.
إضافة إلى ذلك كلّه، لم يعترض غورباتشوف على العادة توحيد المانيا مع زوال ألمانيا الشرقيّة من الوجود.
انتهت الحرب الباردة على يد غورباتشوف الذي عرف باكرا أن لا مجال لبقاء الاتحاد السوفياتي الذي خسر حرباً استمرّت عشر سنوات في أفغانستان... وأن الصواريخ لا تسدّ جوع المواطن العادي.
كذلك، عرف معنى العامل الاقتصادي وأن عملاقاً مثل الاتحاد السوفياتي لا يستطيع الوقوف على رجليه عندما لا يكون هناك اقتصاد قوي.
كان كافياً حادث المفاعل النووي في تشيرنوبيل (أوكرانيا) في النصف الأوّل من العام 1986 ليتبيّن أن الاتحاد السوفياتي مجرّد بلد متخلّف ليس لديه ما ينافس به الولايات المتحدة غير الصواريخ والسلاح النووي...
أخذ غورباتشوف العالم إلى مكان آخر. أخذه عمليا إلى انفراج حقيقي.
إذا اخذنا في الاعتبار حدث الحرب العالميّة الأولى وما استتبعه ثم صعود النازية وهتلر والحرب العالميّة الثانية وانقسام العالم، يمكن إدراج غورباتشوف في خانة خاصة. إنها خانة صُنّاع التاريخ.
لكن ما العمل عندما يكون هناك شعب روسي في حنين دائم إلى زعيم مجنون، لا علاقة له بالإنسانيّة، مثل ستالين وإلى الاتحاد السوفياتي؟
قد يكون من بين أفضل ما كتب عن المزاج الروسي تعليق للزميل كامران قره داغي الذي عاش طويلاً في روسيا ودرس في إحدى جامعاتها في أيّام الاتحاد السوفياتي.
كتب كامران على صفحته في «فيسبوك»: «توفي ميخائيل غورباتشوف رجل السلام الذي هدم جدار برلين ورفع الستار الحديدي لينهي الحرب الباردة. كان الإصلاحي الذي ذاق الشعب السوفياتي تحت حكمه لأول مرة طعم الحرية وحاز على الحق في انتقاد الحزب الشيوعي الحاكم.
أنهى (غورباتشوف) هيمنته (هيمنة الحزب الشيوعي) على كل مفاصل الدولة والمجتمع ورفض استخدام القوة ضد دول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في الفلك السوفياتي فتحرّرت الواحدة بعد الأخرى.
لكن الروس لا يحبون الزعماء الإصلاحيين. كرهوا بطرس الأكبر الذي حاول إدخال قيم غربية حضارية إلى المجتمع الروسي فتآمروا عليه وكان ابنه بين المتآمرين وحتى زوجته كاترين خانته مع طبيبها الفرنسي.
في القرن التاسع عشر اغتالوا القيصر الكسندر الثاني الذي حرر الفلاحين من قيود الإقطاعيين فنال لقب القيصر المحرر.
في مطالع القرن العشرين، اغتالوا رئيس الوزراء الإصلاحي ستوليبين.
وأخيراً اغتالوا غورباتشوف سياسيا وبذلك مهدوا الطريق لصعود ضابط الاستخبارات المغمور فلاديمير بوتين إلى السلطة ليحكمهم بالحديد والنار ويعيد عملياً الستار الحديدي والحرب الباردة».
لم يستطع غورباتشوف تغيير روسيا وعقلية الشعب الروسي. يفضّل الروسي العادي العزلة على التخلي عن وهم استعادة دور القوة العظمى.
لا وجود، أقلّه إلى الآن، لمعارضة شعبية واسعة للحرب التي يشنها بوتين على أوكرانيا بحجة أنها تسعى إلى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). لا وجود لمعارضة داخليّة حقيقية على الرغم من مضي ستة أشهر على تلك الحرب التي كانت في حسابات بوتين حرباً سهلة ستحسم في غضون أيّام.
رحل غورباتشوف عن عالمنا. لم يحقّق النقلة النوعيّة التي كان يطمح إليها.
بقيت روسيا تتخبط في مشاكلها وأزماتها وأسيرة عقدها، على رأسها عقدة أميركا.
ليس ما يدل على ذلك أكثر من الوقوف مع نظام مثل النظام الإيراني الذي لا يستطيع القيام بأي خطوة ذات طابع إيجابي في أي دولة في منطقة الشرق الأوسط والخليج.
لم يتردد بوتين في المشاركة في الحرب التي يشنها النظام الأقلوي في سورية على شعبه بدعم من «الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران.
لم يستوعب معنى أن تكون روسيا أكثر إنسانيّة وأن تتصالح مع نفسها ومع العالم.
هذا ما سعى إليه غورباتشوف وفشل فيه فشلاً ذريعاً. هذا ما يرفضه بوتين المصرّ على استعادة أمجاد لا وجود لها...