جامعة الكبار في «أميركية» بيروت

مسنّون إلى «المقاعد» بعد.. التقاعُد

21 أبريل 2022 01:09 م

.. لأن عظمة الحضارة وتَراكُمها الإبداعي لا تحجبه بضعة أعوام عجاف، ما زال لبنان يعاند، رغم أزماته الشاملة، لإثبات رسوخ إرثه الثقافي وقدرته على التوهج وسط ظلاميةِ المحنة الكبرى التي تستوطنه الآن.

فلبنان، الذي غالباً ما فاخر بأنه كان منبع النهضة العربية وجامعة الشرق لن يرفع الراية البيضاء ولن يغادر هذا الثراء مهما غَدَرَتْ به الأيام، وها هو يكافح لإبقاء شعلة الثقافة والعلم متّقدةً لإنارة درب الشباب والكبار على حد سواء، في الأمس واليوم.

«جامعة الكبار» مبادرةٌ رائدة أطلقتها الجامعة الأميركية في بيروت قبل أكثر من 12 عاماً عبر فتْح أبوابها لكبار السن، ليتاح لهم متابعة تحصيل المعرفة والانخراط في الحياة العامة.

ومن هذه المبادرة وسواها يثبت لبنان، ومؤسساته العريقة، مرة جديدة أن بيروت المصابة بـ «وعكة» لا سابقة لها لن تطأطئ رأسها وهي تمضي في رفْع «الشعلة» عبر مبادرات تجترح الفرص من أجل إنسان أكثر تفاعلاً.

«جامعة الكبار» أو University for Seniors مشروع هو الأول من نوعه في العالم العربي. ورغم كونه معروفاً في أوروبا وأميركا إلا أنه ما زال بعيداً عن الواقع العربي، وكانت الجامعة الأميركية في بيروت السبّاقة في إطلاقه من خلال برنامج مخصص للعمر الثالث أي لمَن هم فوق الخمسين ويتيح لهم الاستمرار في التعلم واكتساب المعرفة لا بهدف تطوير مهاراتهم المهنية بل من أجل متعة التعلم واستمرار المشاركة بفاعلية في الحياة الاجتماعية.

الفكرة وفق ما ترويها لـ «الراي» مديرة جامعة الكبار والمتخصصة بقضايا الشيخوخة والتعمر السيدة مايا أبي شاهين خرجتْ بها أستاذتان في كلية الصحة المجتمعية في الجامعة الأميركية هما عبلا السباعي وسينتيا مينتي حيث لاحظتا، بناءً على دراسات قامتا بها، أن الإنسان الناشط فكرياً واجتماعياً ومهنياً يتقدّم في السن بطريقة صحية ويبقى محافظاً على استقلاليته ويساهم بشكل فعال في إدارة حياته وحاضراً في حياة عائلته ومحيطه.

وبدت الفكرة أكثر إلحاحاً مع الصورة النمطية السلبية التي تغلب على كبار السن في لبنان والعالم العربي حيث يبدو المُسِنّ وكأنه غير مستقل وبحاجة دائمة للمساعدة.

ولذا جاءت فكرة «جامعة الكبار» لتكسر هذه الصورة وتثبت أن هؤلاء يمكن أن يكونوا مساهمين فاعلين في الحياة الاجتماعية من حولهم وأنهم من خلال برنامج التعلم المستمر يصبح لديهم هدف في الحياة يسعون من أجله ويحافظون بذلك على صحتهم في شكل أفضل.

وتقول مديرة البرنامج إن لبنان هو أسرع دولة معمّرة في محيطه وان 11 في المئة من اللبنانيين اليوم هم في 65 من عمرهم وما فوق وبحلول العام 2050 يتوقع ان ترتفع النسبة لتشمل 23 في المئة من السكان أي ربع الشعب اللبناني، وتترافق معها هجرة الشباب وهجرة مُعاكِسة من المغتربين نحو لبنان للتقاعد.

وفي بلد يضمّ هذا العدد من كبار السن يتبين أن لا مجالات مفيدة تساعد هؤلاء في الحفاظ على نشاطهم وإبقائهم متحفزين فكرياً وجسدياً واجتماعياً، من هنا كانت ضرورة إطلاق «جامعة الكبار» لتكون الإطار الذي يجمع كبار السن في حرم الجامعة الأميركية في محيطٍ إيجابي مثمر.

كبار في حرم الجامعة

البرنامج عبارة عن محاضرات مختلفة في مواضيع متنوّعة تمتد على فصلين في السنة مدة كل منها ثلاثة أشهر. ويضم كل فصل 25 محاضرة بكلفة رمزية بسيطة تتيح للجميع الانتساب إليه، ويمكن لكل منتسب للجامعة أن يتابع كل المحاضرات التي تتنوع مواضيعها بين الفنون والصحة والثقافة العامة والمهارات الحياتية إضافة الى دروس يتعلم خلالها الطلاب مهارات معينة مثل الرسم أو الطهو. حتى إن البعض استطاعوا من خلال تَعَلُّم الرسم المشاركة في معرض قطري للفنون وتمكنوا من عرض وبيع لوحاتهم.

وما يميّز هذا البرنامج انه لا يضع شروطاً للطالب إذ يمكن ان يكون خريج جامعة أو ألا يكون قد أتمّ تعليمه، فالمهم هو رغبته بالتعلم والمعرفة. وتضاف إلى المحاضرات رحلات تثقيفية ونشاطات ثقافية واجتماعية تساعد على الحفاظ على الروابط الاجتماعية للكبار في السن وتساهم في إخراجهم من وحدتهم ليشعروا من خلال تواجدهم معاً وكأنهم ضمن عائلتهم وهو ما يؤثر في شكل إيجابي جداً على صحتهم.

والجدير ذكره ان كل المحاضرين الذين يعتبرون مراجع في اختصاصهم هم من المتطوعين الذين لا ينالون أي بدل مادي لقاء تطوعهم لمساعدة الكبار.

وتؤكد أبي شاهين أن البرنامج كبر بسرعة «وبعد أن كان يضم في بداياته كباراً في السن كانوا في الأساس من خريجي الجامعة الأميركية، بات اليوم يضم أشخاصاً من كل لبنان ومن خلفيات اجتماعية وثقافية ودينية مختلفة».

ففي بلد تسوده الانقسامات على اختلافها مثل لبنان استطاعت «جامعة الكبار» أن تجمع هؤلاء الأشخاص في انفتاح كبير وان توجِد بينهم روابط متينة تساعدهم على حبّ الآخر وتَقَبُّله ليصبحوا كأنهم واحد. وقد بات اليوم العديد من أطباء الشيخوخة يصفون هذا البرنامج لمرضاهم لإخراجهم من عزلتهم ومنحهم هدفاً في الحياة، كما أن عائلة هؤلاء الكبار وأبنائهم لاحظوا كم تبدَّل أهلهم إيجاباً بعد البرنامج ولا سيما النساء اللواتي تغيرت خياراتهن وبتن يملكن قوة أو تمكيناً أكبر.

نجاح الكبار في مواجهة تحديات الأونلاين ولكن مع حلول العام 2020 وتَبَدُّل أحوال العالم والكرة الأرضية ككل إثر جائحة كورونا، انتقل البرنامج من حرم الجامعة الأميركية إلى الأونلاين وكان هذا الانتقال وفق المسؤولين نقلةً نوعية أثبتت أن كبار السن قادرين على التأقلم مع التقنيات الجديدة واستخدامها في شكل فعال للبقاء على تواصل مع العالم الخارجي. واليوم هناك ما بين 80 إلى 100 مشارك لبناني وغير لبناني من أنحاء مختلفة من لبنان كما من البلدان العربية وأفريقيا ودول أخرى يشاركون في المحاضرات عبر منصة زووم وقد ساعدهم ذلك بشكل كبير في مواجهة مخاوف كورونا وتحمُّل الحَجْر الصحي الذي فُرض عليهم فكان نقطة الضوء في ظلمة الجائحة.

ويوماً عن يوم تثبت جامعة الكبار أهميتها في لبنان وقد اعتمدتها اليونسكو كحالة تستحق الدراسة ولا سيما ان الجامعة لم تركّز فقط على التعليم ومنح المهارات بل على تفعيل الحس الاجتماعي والانتماء إلى المجموعة عند كل المنتسبين إليها.

نبال صايغ ومتعة المعرفة

«الراي» استطلعت آراء بعض المنتسبين إلى جامعة الكبار لتطلع منهم على ما أحدثه هذا البرنامج من تأثير على حياتهم.

البداية كانت مع نبال شهاب صايغ، سيدة سبعينية تضج حيوية وحباً بالحياة. درست الحقوق في الجامعة اللبنانية لكنها لم تكمل تحصيلها الجامعي لأسباب خاصة. وتقول إنها تعرّفت إلى البرنامج من خلال جارة لها ووجدت فكرة التعلّم جذابة ومسلية ولا سيما أنها لا تتضمن امتحانات. بالنسبة إليها لا حدود للمعرفة والتعلّم، وقد كانت التجربة منذ بدايتها رائعة لا سيما التواجد في حرم الجامعة الأميركية مع الرفاق والزملاء حيث كانت الأجواء الاجتماعية ودّية رائعة.

وهنا تقول: «تَعَرَّفْنا إلى وجوه جديدة، إلى نساء ورجال يودون أن يكونوا أفضل، وقد وجدوا في هذا البرنامج فرصة لحياة جديدة».

وتصر صايغ على «أن النساء المُشارِكات ورغم كون غالبيتهنّ أمهات أو جَدات، إلا أنهن أردن كسْر الصورة النمطية للمرأة في هذه السنّ والتي توحي بأن دورها ينحصر في المطبخ والحياكة والاهتمام بالأحفاد، وتقول: «أنا حشرية بطبعي، أحب التعرف إلى أشياء جديدة، أقرأ كثيراً وقد عشتُ في روما ست سنوات استكشفتُ خلالها كل المتاحف والأمكنة الأثرية وتعلّمتُ اللغة وتعرفتُ إلى الحياة الثقافية في المدينة. لم أجد نفسي في الصبحيات والثرثرة بل أحببتُ دائماً الاكتشاف والسفر». في جامعة الكبار وجدتُ ما كنت أتوق إليه: محاضرات رائعة في مواضيع شيّقة يقدّمها مختصون. وكانت لنا محاضرة في الموسيقى مع غدي وعمر الرحباني ووجدتُ نفسي أحلق في الفضاء معهاـ وأخرى عن السجاد العجمي مع واحد من أهم الخبراء في المجال وهو هادي مكتبي. وتابعنا محاضرة مع زياد الرحباني عن الفنان الراحل جوزيف صقر. ومن المحاضرات التي أثّرت فيّ كثيراً سلسلة حول التفكير الإيجابي مع مدرب على الحياة أفادتني كثيراً لأنني حينها كنت أعاني مع مرض زوجي وقد زودتني بالطاقة. وثمة محاضرة أخرى أثرت بي تدور حول كيفية معالجة الطاقة السلبية بالفن وكيف نحمي أنفسنا من الطاقة السلبية من حولنا، وقد علّمتني هذه المحاضرات كيف أواجه الحياة حتى في هذه السن وصرت أعرف كيف أعيد حساباتي وأضع حداً لكل شخص أو أمر يزعجني».

وتابعت: «فتحت هذه الجامعة لي آفاقاً أوسع وزوّدتْني بمعلومات كثيرة لا لأتبجح بها بل لأكون سعيدة بمعرفتها وأواكب بها مسيرة الحياة التي تسير دائماً الى الأمام. بوجودنا نحن كبار السن هنا، لا نوضع على الرف ولا نكون عالة على أحد بل نهتم بأنفسنا ونتخذ قراراتنا ونكون أفراداً فاعلين في المجتمع. في حرم الجامعة كان التواصل العاطفي فيما بيننا والتواجد مع الآخرين أمراً في غاية أهمية. كنا نتبادل التحية والعناق ونجلس معاً ونتساير ونضحك. ومعلوم ان التشارك الاجتماعي مثله مثل العائلة يطيل العمر ويحسن نوعية الحياة».

وختمت: «خلال الجائحة كنا أمام تحدٍّ صعب وهو أن نتعلم تقنيات جديدة وألا ندع عقلنا يتحجر وينكمش. وتَعَلَّمْنا ألا نعيش في العلبة التي حدّدها لنا المجتمع، وأن ثمة حياة تنتظرنا خارج هذه العلبة مفتوحة على كل الاحتمالات».

يوسف بكري والحماسة المستجدة

السيد يوسف بكري طالب آخر في جامعة الكبار في الـ85 من عمره. شغل في حياته منصب مدير عام واحد من أهم المصارف في بيروت. وحين تَقاعَدَ وجد نفسه بحاجة لأن يملأ الفراغ الذي لم يتعوّد عليه في حياته فوجد الملاذ في «جامعة الكبار»، والتحق بها قبل أكثر من 10 أعوام متابعاً للمحاضرات الشيقة والمفيدة حتى اليوم: «لقد منحني هذا البرنامج هدفاً وأعطاني الحافز لأن أملأ وقتي في شكل مثمر وأن يبقي ذهني نشطاً. وبت أنتظر موعد المحاضرة بحماسة. لقد أوجد لنا البرنامج حياة اجتماعية جديدة ووسع آفاق حياتنا، فقد تعرّفت عبره على أشخاص من جيلي أستطيع أن أتبادل معهم الأحاديث وننتاقش معهم في مواضيع مشتركة. فكنا مثلاً نتمشى معاً في حرم الجامعة الأميركية كالطلاب الشباب نتساير ونتواصل. لا شك أن المعلومات التي تقدمها لنا المحاضرات مهمة ونتيجة خبرات حياتية قيمة لكن الأهمّ بالنسبة لي التوق إلى موعد المحاضرة. وهذه الحماسة الجديدة الحلوة ما زالت حاضرة في حياتي لتعلّمني بأن الحياة ما زال فيها أمل وأن أموراً حلوة تنتظرنا. صحيح أنني كنت نشطاً بعد التقاعد ولم أمرّ بمرحلة من الإحباط بل كانت لي نشاطات رياضية واجتماعية، لكن «جامعة الكبار» غيّرت حياتي وساعدتني على تنظيم وقتي بناء على موعد المحاضرات».

الانتقال إلى مرحلة الأونلاين مع حلول الجائحة والحجر كانت له إيجابياته وسلبياته بحسب السيد بكري: «لقد افتقدت جو الجامعة واللقاء مع الأصدقاء والنقاشات المشتركة في مواضيع متنوعة، لكن من جهة أخرى أَخْرَجَنا الأونلاين من العزلة التي فرضها علينا الحجر وفتح أمامنا طاقة أمل. كثيرة هي المواضيع التي يهتم بها هذا الطالب الثمانيني ولا سيما المواضيع الصحية لأن كل الكبار في السن يخافون على صحتهم ويودون الإطلاع على معلومات تساعدهم في الحفاظ عليها. ولكنه يهتم أيضاً بالمواضيع المالية والاقتصادية التي اعتاد عليها وكذلك بمواضيع جديدة عليه مثل الرسم والفن. ويقول «إن كبير السن يكون قد انقطع عن مواكبة المواضيع الجديد لذا يأتي هذا البرنامج ليساعده في التعرف إلى طريقة تفكير الشباب واهتماماتهم».