«الراي» قلّبت مع الإعلامية اللبنانية تجربتها على خطوط الموت والذعر منذ الطلقة الأولى للحرب

كريستيان بيسري عادت من «ملعب النار» الأوكراني بقلب.. محروق

20 مارس 2022 03:37 م

- هكذا هربتُ مع جنود أوكرانيين.. فكان أول لقاء لي مع شبح الموت والخوف
- في إحدى الليالي كان علينا أن ننام بموقف السيارات وقد تحوّل ملجأ وبدرجةِ حرارةٍ ما دون 10 تحت الصفر
- تَغَيَّرَ مزاجُ الأوكرانيين بعد بدء الحرب وبات يتملّكهم غضبٌ وحقدٌ لا يوصف تجاه بوتين
-
- في الملاجىء ارتسمت على وجوه الناس في الأيام الأولى للحرب صدمةٌ مجبولةٌ بالخوف
- الحس الوطني لدى الأوكرانيين جعلهم يختارون الدفاع عن أرضهم حتى النهاية ولسان حالهم «سنحوّلها حرب شوارع»
- لبنانيون عاشوا تجربة التهجير للمرة الثانية.. لا يريدون ترْك البلد الذي أسسوا فيه أعمالاً وعائلات ولم يعودوا يملكون طاقة البدء من جديد
- طريق الخروج من أوكرانيا كان شاقاً.. 4 أيام لاجتياز مسافة لا تحتاج لأكثر من 9 ساعات
- في أوديسا وبعدما اعتقدنا أننا بلغنا برّ الأمان إذ بصاروخ ينفجر بالقرب منا.. وبعض شظاياه وصلت إلينا
- على الحدود المولدوفية المشهد الأشدّ إيلاماً.. رجال يودّعون نساءهم وأطفالهم بحرقة ليعودوا هم إلى جبهات القتال
- أطفال ونساء على الحدود مع مولدوفيا كانوا يصلون مرهَقين من الجوع والتعب ولكن همهم أن يفروا من الجحيم

أكثر من شهر قضتْها كريستيان بيسري مراسلة قناة «العربية الحدث» في أوكرانيا في عزّ «تسونامي النار» والدم والدمار الذي اجتاح هذا البلد على حين غفلة.

لم تكن تجربة عابرة عاشتها المراسلة الشابة في أرض الحدث بل معمودية نار على الصعيد المهني وضعتْها «وجهاً لوجه» أمام الأسوأ فكانت على قدر المواجهة بثبات واحتراف.

ولم تقلّ أهمية التجربة الإنسانية العميقة التي تَقاسَمَتْها مع الذين عاشت معهم معنى الجوع والرعب والبرد على خطوط الموت.. أبرياء يدفعون دائماً الثمن في نهاياتِ حروبٍ لا تنتهي بالنسبة إليهم مع صمت المَدافع.

تجريةٌ ترويها كريستيان بيسري لـ «الراي» بتفاصيلها المؤلمة وبعض لمحاتها المضيئة.

لم تكن اوكرانيا ارتدت بعد «المرقّط»، وكانت الحرب وطبولها لا تزال مجرد أصداء بعيدة حين توجهت بيسري، المذيعة ومراسلة محطة العربية البحدث الإخبارية الى أوكرانيا في الخامس من فبراير بعدما استشفت ومحطتها أن ما يتهيأ هناك أمر كبير ويحتاج الى تغطية وإن لم يبدأ بعد.

وتقول: «بسرعة جهزنا أنفسنا و حصلنا على التأشيرات لزيارةٍ لم تكن مبرمجة مسبقاً. حين وصلنا الى كييف كانت الحياةُ عاديةً فيها ولا مؤشرات تنذر بالحرب. الناس مُطْمَئنون ويؤكدون عدم حصولها.

فالتوتر مع روسيا أمر دائم وشبه طبيعي بالنسبة إليهم. وكنا كلما اتجهنا شرقاً نحو مدينة خاركيف ومحيط دونباس وجدنا ان الناس هناك وكأنهم في حالة إنكار لا يريدون تصديق إمكان اندلاع حرب.

هنا كلهم عندهم أهل في الجهة الثانية من الحدود، ويتساءلون أمامنا:هل يمكن أن نحمل السلاح ضد إخوتنا؟ هل نقاتل عائلاتنا؟».

الأخوات الثلاث

في منطقة قريبة من الحدود الروسية يقوم تمثال «الأخوات الثلاث» الرمزي الذي يمثّل روسيا، أوكرانيا وبيلاروسيا وكأنهن شقيقات متّحدات، وحوله يقام سنوياً مهرجان كبير للاحتفال بهذه الأخوة. و«لكن المفارقة أن هذا الشعور بالأخوة يتضاءل ويرتفع في مقابله الشعور باقترابٍ وشيكٍ للحرب كلما ابتعدنا عن المنطقة واتجهنا نحو الغرب» كما تروي البيسري «إذ يتبدّل الوضع وتصبح الحرب واقعاً يستعدّ له السكان من خلال مخيمات تدريب للرجال والنساء وحتى الأولاد وبمجاهرة علنية بالعداء للرئيس الروسي بوتين. وكأن المجتمع الأوكراني منقسم بين الرافض لفكرة الحرب ومَن يتحضر لها، وكانت قد بدأت الأصداء تتردد بأن الغزو سيكون في 16 فبراير وبدأت وتيرة الخوف تزداد بين السكان».

فجر يوم الخميس المشؤوم حين بدأ الاجتياح الروسي، كانت كريستيان بيسري وزميلها المصوّر في مدينة كراماتورسك قرب مناطق الانفصاليين. وعند الرابعة والنصف فجراً استيقظت المراسلة الشابة على صوت انفجار ظنّتْه بداية رعداً، ثم تكرر الصوت. ركضتْ بملابس النوم الى ردهة الفندق حيث تَجَمَّعَ الناسُ، وحينها أدركتْ أن المحظور قد وقع، وأن الحرب اندلعت.

وتروي: «كنتُ قد وضعتُ كل الاحتمالات وتهيأتُ لإمكان حدوث حرب، لكنني لم أتخيّل مطلقاً أن تكون على هذا النحو الشامل.

في اليوم الأول وعند بدء القصف العنيف، صارت الحرب استحقاقاً لا بد من مواجهته.

وانتقلنا الى خاركيف حيث نشأ على الفور خط تماس بين الجيشين الأوكراني والروسي، ومن هناك طلعت ببث مباشر من الجبهة في رسالةٍ تخطت مدتها 45 دقيقة.

بعد ربع ساعة من وجودنا على الهواء بدأوا يصرخون بنا طالبين أن نختبئ.

رأينا دبابات روسية تتقدم، وخرج الجنود الأوكرانيون من متاريسهم وهربوا نحو مكان آخَر فهربتُ معهم ورميتُ بنفسي على درج يؤدي إلى مكانٍ ما تحت الأرض.

ظننتُ أنني سأصل الى ملجأ، لكن الباب أسفل الدرج كان مقفلاً ولا مكان بعده أحتمي فيه.

حينها شعرتُ بالذعر، لكنني لحقتُ بالجنود وكان ذلك أول لقاء لي مع شبح الموت والخوف».

لم تعش بيسري، ابنة الشمال اللبناني، أهوالَ الحرب اللبنانية ومعاركها ولم تشهد على الخوف الذي تَمَلّكَ مَن تعرّضوا لقصفها وأخطارها ووحشيّتها، ولذا تأرجحتْ مَشاعرُها بين الخوف والحماسة لمتابعة تغطيتها المباشرة من هذا المكان الذي يشهد أولى طلقات الحرب.

تذكّرتْ قول أحد الأصدقاء في منظمة الأمن والتعاون الأوروبي حين قال لها إن الغزو سيبدأ وستكونين شاهدة عليه وستعيشين تجربة حياتك، فإما أن تخرجي منها بلا يد أو رِجل أو تضعين مدماكاً صلباً في تجربتك المهنية والخاصة.

حينها كانت الأفكار تتنازع في رأسها، لكن صورة واحدة احتلت تفكيرها، وهي صورة والدتها التي تشاهد على الهواء ما يحدث معها: «كانت أمي تكلّمني من بعيد عبر الشاشة حسبما رووا لي لاحقاً وتصرخ فيّ كما لو كنت أمامها:»عَجّْلي فَلّي، طْلعي بالسيارة وفِلّي".

لم تشأ المراسلة العالقة وسط الحرب أن تفتح رسائل أمها عبر الواتساب، خافت أن تعيقها العاطفة عن أداء المهمة التي جاءت من أجلها «لم أشأ أن أسمعها حتى لا أشعر بالذنب بسبب ما أحمّلها إياه من خوف وقلق.

كان أمر والديّ يقلقني جداً حتى أنني كنت أضطر لبعض الكذب حتى لا أشغل بالهما أكثر، وكانت والدتي تلوم أبي لأنه شجّعني على الذهاب وتُحَمِّلُه مسؤولية أي أمر يقع لي».

الحرب غيّرت الناس

الحرب بدّلتْ الناس وغيّرتْ أحوالهم هناك في أوكرانيا. فالشعب الودود اللطيف صار عدائياً متوجّساً من أي غريب ويرى فيه مشروع جاسوس أو مخرّب ولا سيما أنه كان يتم القبض على شبكات تجسس وتخريب. تَغَيَّرَ مزاج الناس وبات قلقهم وخوفهم يلامس العدوانية، وتقول بيسري: «بدايةً كانوا يظنونني أوكرانية مثلهم كوني شقراء الشعر، لكن ما أن يلمحوا المصوّر الأسمر الملامح او يروا»لوغو«المحطة القريب بألوانه من العلم الروسي كانت الأمور تتخذ منحى آخَر أكثر شراسة. حتى أنهم استدعونا الى المدخل في الفندق وطلبوا أوراقنا للتأكد من أننا لسنا روساً. أصبحوا أشخاصاً مختلفين يتملّكهم غضبٌ وحقدٌ لا يوصف تجاه بوتين ويعيشون ذعراً لا سابق له».

كثيرة هي المُشاهَدات التي رصدتْها بيسري بعينها ووجدانها كما في كاميرا المصوّر الذي يرافقها. وجوه الناس في الملاجئ والصدمة المجبولة بالخوف التي ارتسمتْ عليها في الأيام الأولى، حِسُّهم الوطني العالي ونيّتهم بالدفاع عن أرضهم حتى النهاية وإن كانوا يدركون جيداً أن الروس هم الأقوى، ولسان حالهم كان: «سنحوّلها حرب شوارع في وجههم ولن نتركهم يقضمون المزيد من أراضينا».

بين براثن الجوع والبرد

نسأل المراسلة أن تروي لنا الأيام السود التي عاشتْها هناك وبمَن التقت من المراسلين العرب، فتروي أنها بدايةً قصدت كييف وتركتْ حقيبتها الكبيرة التي تضمّ كل حوائجها هناك، واكتفت بحقيبة صغيرة حين انتقلتْ الى تخوم دونباس بعدما علمت أنها المنطقة الأشد حماوة: «هناك كنا نتنقل بين فنادق عدة، غالبيتها يعود الى فترة الثمانينات من القرن الماضي وما قبل. فنادق عير مجهَّزة بوسائل الراحة وسط ظروف أمنية ومعيشية ومناخية صعبة. في إحدى الليالي كان علينا أن ننام في موقف السيارات وقد تحوّل الى ملجأ بسبب القصف وبدرجةِ حرارة نزلت الى ما دون عشرة تحت الصفر. لكنني قررتُ البقاء في الغرفة وتركتُ بابَها مفتوحاً حتى لا تتسبب القذائف بضغط يؤدي الى تكسر الأبواب والزجاج، وكنتُ أسمع تَحَطُّم الزجاج في الغرف المجاورة ودويّ صافرات الإنذار. لكن حين اشتدّ القصفُ حملتُ غطائي ونزلتُ إلى ردهةِ الفندق وكان البرد قارساً. حينها أدركتُ معنى المثَل الذي كانوا يردّدونه أمامي صغيرةً أن»الخائف والجوعان والبردان«لا يمكنهم أن يغفوا، فكيف إذا اجتمعتْ الحالاتُ الثلاث على شخص واحد؟».

برفقة المصوّر طلال المصري الذي رافَقَها من دبي، كانت كريستيان بيسري تتنقّل بين المناطق. لم تلتقِ بمراسلين عرب، فغالبيتهم كانوا من الصحافة الأجنبية. لكنها في طريق الخروج من أوكرانيا التقتْ بكثير من اللبنانيين الذين سعوا لمساعدتها وتسهيل خروجها وهم في غالبيتهم من اللبنانيين الذي يعيشون في أوكرانيا منذ فترات طويلة.

وعن هؤلاء تقول: «وضْعهم مُحْزِنٌ فهم يعيشون تجربة التهجير للمرة الثانية. لا يريدون ترْك البلد الذي استضافهم وأسسوا فيه أعمالاً وعائلات من جديد. وغالبيتهم لم تعد تملك القوة ولا طاقة الشباب للبدء من جديد مرة ثالثة»... في حين ان الطلاب اللبنانيين، ومعظمهم في المدن الجامعية في خاركيف، كانوا متلهّفين للمغادرة ويطلبون المساعدة.

طريق الخروج من أوكرانيا كان طويلاً وصعباً، وكان الخيار بين التوجّه نحو الحدود البولندية أو مولدوفا ومن ثم رومانيا عبر أوديسا، وكان الخيار الثاني هو الأنسب لأن الطريق أقرب ولا سيما أنهم يحملون معهم معدات التصوير. وتقول بيسري: «تجربة الخروج لم تكن سهلة. كان علينا أن ننام في فندق على الطريق، لكننا وصلنا ليلاً وكان حظر التجول قد بدأ. لم نجد في الفندق طعاماً وكل محال السوبرماركت كانت مقفلة. حينها عرفت معنى أن ينام الإنسان جائعاً وأن تخور قواه نتيجة ذلك. في اليوم التالي اصطحبونا الى منزل عائلة لبنانية، وأول ما طلبته منهم هو تَناوُل الطعام فأعدوا لنا فطوراً أعاد إلينا شيئا من القوة».

أربعة أيام قضوها على الطريق في حين لا تحتاج المسافة لأكثر من 9 ساعات، ولكن نقاط التفتيش الكثيرة التي كان يقيمها مدنيون أوكرانيون غير منضبطين جعلت الطريق صعباً وطويلاً، وأظهرت بوضوح أن البلد بأكمله في حالة حرب: «حين وصلنا الى أوديسا وبعدما اعتقدنا أننا بلغنا برّ الأمان، إذ بصاروخ ينفجر قريباً منا وقد وصلت بعض شظاياه إلينا. على الحدود المولدوفية كان المشهد أشدّ إيلاماً وحزناً من منظر الناس في الملاجئ. هنا كان الرجال يودّعون نساءهم وأطفالهم بحرقة، يضعونهم على الحدود ليرحّلوهم فيما يعودون هم الى جبهات القتال».

وتضيف: «ما كان إلي قلب صوّرهم» لشدّة المأساة التي تلوح في عيون الجميع.

كان الأطفال والنساء يصلون الى هذه النقطة مرهقين من الجوع والتعب ولكن همهم ان يرحلوا ويفروا من هذا الجحيم.

رحلة الخروج من الجحيم

استمرّت الرحلة الشاقة من مولدوفيا الى رومانيا، ومن هناك كانت العودة الى دبي بعد أكثر من شهر قضوها في بلدٍ انتقل من السلم الى الحرب، وعاش الظلم والأمل والإصرار على المواجهة رغم الخوف: «أحسستُ بالذنب حين غادرتُ، وتضاربتْ في داخلي مشاعر عدة لم أفهمها بوضوح. مهنياً كنت أتمنى البقاء والاستمرار في تغطية أحداث في هذا البلد الذي تعلّقتٌ به، بعدما كنت لا أعرف شيئاً عن جغرافيته أو لغته.

أما إنسانياً، فكنت أعرف أن أهلي لا يستأهلون أن يعيشوا هذا الخوف الدائم عليّ.

وحين وصلنا الى دبي بقيت ليومين صامتة على غير عادتي غارقة في أفكاري، أتساءل عن وجوه أشخاص عايشتُ ماذا حلّ بهم.

ماذا حلّ بالطفلة باربرا التي كانت تَخرج من الملجأ في خاركيف وتقف الى جانبنا كلما طلعنا في بث مباشر؟ وبتلك النادلة في الفندق التي انفجرتْ باكيةً أمامنا لأن شقيقها ذهب الى الجبهة؟ وذاك العجوز الذي بالكاد يستطيع جرَّ نفسه للوصول الى الملجأ؟ ماذا حلّ بهذا الشعب الذي لم يَعُدْ لديه شيء سوى التمسك بأرضه؟ ولماذا على هؤلاء وأمثالهم من المقهورين أن يدفعوا ثمن الحرب فيما المحادثاتُ بدأت على الطاولة بين الكبار في بيلاروسيا؟».