إطلالة على الصدى الثقافي لحروبها الباردة والساخنة

بين لبنان وأوكرانيا.. الفن مرآةٌ لا تُخادِع

18 مارس 2022 08:13 م

بقدر ما تنشغل وسائلُ الإعلام الغربية بمتابعة تطورات الحرب الروسية على أوكرانيا، لجهة الوقائع العسكرية والمجريات السياسية والتداعيات الإقتصادية، فإنها تعطي في الوقت نفسه مساحةً واسعة للإهتمام بالميدان الأدبي والفني في أوكرانيا. وبدأ متابعو المعارك يعرفون أدباء تلك البلاد وموسيقييها والراقصين والمصوّرين الذين تحوّلوا ناطقين باسم وطنهم ومُدافعين عنه.

يقول الكاتب الأوكراني أندريه كوركوف في مقابلة صحافية إنه تحوّل خلال الحرب منذ أسابيع مصدرَ إهتمامٍ ليس لكونه روائياً يَقرأ له الناس فحسب، بل لأنه بات يعكس يوميات الحرب وما تعيشه بلاده. ومن هذه الزاوية أيضاً صار أرباب العدسات من فنانين، يرسمون ويصوّرون وينشرون يوميات الحرب على وسائل التواصل الإجتماعي، في مقاربة إنسانية مختلفة عن تلك التي يلتقطها ويحكي عنها المصوّرون الصحافيون. وهذا ما عكس أهمية وسائل التواصل في معركة أوكرانيا التي لعبت دوراً مهماً، في تغطية مجريات الحرب والتي كشفت جوانب لم تكن معروفة في شكل جيد، وأعطى للفنانين والأدباء والموسيقيين ومنهم في أوركسترات عالمية، والراقصين في فرق باليه مشهورة، صوتاً قوياً للدفاع عن بلادهم.

ولبنان الذي ينغمس في حرب أوكرانيا نتيجة انقسام المواقف السياسية بين مؤيّدي روسيا ومؤيدي أوكرانيا، سبق أن عاش تجربة مماثلة لكن ليس في السياقات نفسها. فلم يحصل في لبنان أن دخل الفنانون إلى هذا الحدّ من الإلتزام والعلانية في إشهار مواقفهم السياسية كما حصل في مرحلة إنتفاضة 17 أكتوبر 2019، ومن ثم بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 اغسطس 2020، ليعود الصوت ويختفي تدريجاً ما عدا قلة منهم.

عاش لبنان تجربة النقاش حول الفن الملتزم أو الفن للفن، وهو نقاش ما زال مستمراً منذ ان بدأ الوعي السياسي والفني يتجاوران.

عَكَسَ الأخوان رحباني وفيروز في أغنياتهم الإلتزامَ الفني بقضايا الناس، والعلاقةَ بين الحاكم والمحكوم والظلم والسعي إلى الحرية وكرامة الإنسان. لكنها لم تلتصق قطعاً بأي إتجاهٍ سياسي، لا قبل الحرب ولا بعدها. وظلت الأغنية الرحبانية معبِّرة عن وجع كل إنسان مهما كان انتماؤه السياسي أو طائفته، فكانت تملأ أثير كل الإذاعات والتلفزيونات التي إنقسمت بين الشرقية والغربية (بيروت إبان الحرب) واليمين واليسار.

وهكذا حصل مع المسرح اللبناني في غالبيته، الذي عَكَسَ همومَ الناس كما فعل الرحابنة أو «شوشو» في مسرحيات فارس يواكيم، في حين أن المسرح في شكل عام كان، من خلال تعريبه لمسرحيات غربية يعبّر في صورة ملموسة عن كل ما يتعلق بأفكارٍ داعية إلى محاربة الظلم والدفاع عن الحرية وحقوق الشعب في نيل مطالبه.

خلال الحرب اللبنانية الطويلة، بدأ الكلام عن الفن الملتزم، وأخذ يتوسع ليطال الأغنية أولاً، مع بدء فكرة الأغنية الملتزمة، التي عبّر عنها مارسيل خليفة وسامي حواط وخالد الهبر، لكن المساحة الأوسع بقيت بلا مُنازِع لزياد الرحباني، وإن كان هو لا يحبّذ هذه التسمية.

زياد الرحباني عَكَسَ، مسرحاً وموسيقى وكلمات أغنية، خطاً سبق أن خطه والده عاصي الرحباني في نقل الإلتزام بقضية الإنسان والفرد في مجتمعٍ عايشه الرحباني الإبن خلال الحرب بكل إنقساماته وطوائفه وأحزابه. كان الطاغي في هذا الجو الطابعُ اليساري، للأغنية والمسرح، في وقتٍ انتعش مسرح نضال الأشقر وروجيه عساف ورفيق علي أحمد، في نقْل أوجاع اللبنانيين التي تحاكي قضايا الظلم وقضية الجنوب والمقاومة لإسرائيل قبل صعود نجم «حزب الله»، في عز تألُّق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية.

في المقابل صعد اليمين اللبناني بأغنياتٍ إرتبطت بمرحلة الحرب وبالمقاومة اللبنانية و«حزب الكتائب» و«القوات اللبنانية» والرئيس بشير الجميل، ومنها أغنيات لباسكال صقر التي إرتبط اسمها بتلك المرحلة، ومسرحيات تعكس رؤية اليمين اللبناني للبنان الكبير وجبل لبنان التاريخي القديم.

في الوقت ذاته عَكَسَ الأدب اللبناني حكايا الحرب من جوانب مختلفة، فكانت روايات حسن داود والياس الخوري ورشيد الضعيف وجبور الدويهي وربيع جابر، نماذج عن أدب الحرب وما بعدها.

والمفارقةُ أنه بعد انتهاء الحرب، بدأت مرحلةٌ إرتبطت بغياب المسرح والأغنية الملتزمة، وطغت عناوين السلم والإزدهار على الجو العام، ومحاولة الخروج من أتون الحرب لواقع فني يعبّر في صورة مبالَغ فيها عن الرخاء والبحبوحة، فكانت طبقة فنانين تعكس الرائج على مستوى الكلمة واللحن، وصار مشهد الفن اللبناني على وفرة مهرجاناته يمثل مزيجاً غير متجانس من ثقافة هجينة.

قد تكون مرحلة اغتيال الرئيس رفيق الحريري (في 14 فبراير 2005) وخروج الجيش السوري، والتظاهرات الشعبية في معسكريْن متقابليْن (8 و 14 مارس)، أول هزة طالت الفنانين والأدباء والمصوّرين والرسامين. ورغم أن موجةَ أغنيات وكتابات طالت تلك المرحلة بتفجُّع، إلا أنه لأول مرة بدأ الفنانون الحريصون عادة على عدم الإنغماس في الشأن السياسي، للحفاظ على جماهيريتهم، التعبير عن قناعاتهم الحزبية والسياسية. وعَكَسَ الفنَانون إنتماءهم، ومثلهم أدباء عبّروا صراحة عن هويتهم السياسية. وساهم صعود مواقع التواصل الإجتماعي، في تعزيز صورة الفنانين والأدباء الذين كانوا يكتبون عن آرائهم السياسية.

وبدتْ المَشاهدُ حادةً، في رؤية فنانين يغنّون لهذا الزعيم الحزبي أو ذاك، وبات الفنانون المغنّون تحديداً منحازين لأحزاب وشخصيات في شكل غير مسبوق، يحْضرون مهرجاناتهم ويعلنون ولاءهم لهم. لكن المشكلة التي ظلت طاغية هي بعض السطحية في تَناوُل الشأن العام، وحتى بعض الإسفاف الذي إعتمدتْه شخصيات فنية في التعبير عن عدائها للطرف السياسي الآخَر. وهو ما تجلى في شكلٍ أكثر حدة بعد إنتفاضة 17 أكتوبر.

مرحلة الانتفاضة الشعبية في الـ2019 وانفجار مرفأ بيروت في الـ2020، شكلا منعطفاً جديداً في إنغماس الأدب والفن في السياسة الفئوية. فبات لبنان أمام مشهد فنانين ينضمون إلى الثورة أو يتصدّرون مجموعة متظاهرين، أو يجولون في أحياء بيروت التي دمّرها إنفجار المرفأ. وتشكلت بعض مجموعات من الفنانين الملتزمين قضايا الإنسان المعذَّب والمقهور، وبدا هؤلاء جديون في التعاطي مع القضايا اليومية في طريقة غير إنحيازية بل واقعية ولا سيما في خطابهم ضد أحزاب ما يعرف بـ «المنظومة» والسلطة كافة، في موازاة مجموعات تتصدر المشهد ترويجاً لموقعها الفني فحسب.

في المقابل حاول بعض الأدباء وخصوصاً بعد الإنفجار «الهيروشيمي» في بيروت العمل على محاكاة العالم العربي والغربي تحديداً، فكانت فئة منهم تطلّ على المشهد الأوروبي والأميركي لتنقل وقائع مما جرى في العاصمة، كما كانت الحال بعد 17 أكتوبر، حيث كان التشديد على وحدة اللبنانيين التي انهارت لاحقاً مع وقوف جمهورٍ حزبي مُعارِض للمتظاهرين. وبرز هؤلاء في الصحف الغربية وفي التلفزيونات يتحدثون عن معارضتهم للسلطة وتحميلها المسؤولية عن الإنفجار.

لكن ورغم أهمية المشهد الثقافي والأدبي والفني في لبنان، إلا أن تجربة أوكرانيا أظهرت الاختلاف الجذري بين واقعين، حيث بدا الأوكرانيون المثقفون والأدباء صوتاً واحداً معبّراً بكثافة عن وحدتهم. فيما الصوت الأدبي والثقافي في لبنان، يستمر في التعبير عن وهج الاختلافات، بين قوى «8 و14 مارس» وبين حلفاء «حزب الله» وعهد العماد ميشال عون وبين خصومهم، فلا تعبّر هذه المرحلة أدبياً وثقافياً إلا عن حجم الإنقسام الحزبي والسياسي والطائفي للبنانيين في إنعكاسٍ واقعي لحجم المأزق الذي يعانيه المجتمع اللبناني.