قيم ومبادئ

«نبي استشاري نفسي»!

17 مارس 2022 10:00 م

مع انطلاق المدارس، هناك 463895 طالباً وطالبة يمثلون أكثر من نصف المجتمع في العام 2021 - 2022 سيقضون نهارهم في المدارس والجامعات والمعاهد، هذا إلى جانب كثرة الدراسات في قطاع البحوث بوزارة التربية والمتعلقه بالظواهر السلبية ورغم التعب في البحث العلمي والمادي الجسدي وما توصّلت إليه من نتائج رغم أهميتها فإنها ستكون حبيسة الأدراج أو فوق الرفوف أو المخازن!

والملاحظ اليوم كثرة الأخصائيين الاجتماعيين والتربويين وانتشار المكاتب التي تقدم استشارات تكلفتها تصل إلى مئات الدنانير للجلسة الواحدة؟ ويستقبلون الجميع لتقديم هذه الخدمة فبحثوا في نفسية البطل السياسي، ونفسية العبقري والمجرم والطفل والمراهق!

لكن هذه الاستشارات والتوصيات قد أصابها ما يصيب كل بدعة جديدة يلهج الناس بها زمناً من الأزمان، حيث أصابها الإفراط في تطبيقها على كل شيء وكل حالة، فأصبحنا ونحن نسمع بالعُقد النفسية في تعليل كل مشكلة خاصة كانت أو عامة، وكلما ظهرت ظاهرة في المجتمع الكويتي خرج علينا الخبير والاستشاري وختم تصريحه بأن هذه (عُقد نفسية) أو (نزعة مكبوتة) أو (حالة من حالات الوسواس) وتتطلّب جلسات وعليك أن تدفع مبلغاً وقدره... ويمكنني الإشارة هنا ولو سريعاً بأن المشكلات الاجتماعية الكثير منها يرجع إلى أسباب لا علاقة لها (بالعُقد النفسية)، وهنا لا بد أن نواجه الحقيقة إذا أردنا أن نعرف مشاكلنا ونصححها كي نرتقي من جديد ونخرج من عباءة (المرشد العام) لأن تشخيص الداء يعتبر نصف العلاج، فخذ مثلاً مشكلة (الأجيال القادمة) أو الشاب العصري وموقفه من التعليم ومن المجتمع وعاداته وقيمه!

فهذه ليست عُقداً نفسية بل هي تتعلّق بفلسفة التعليم أو النظام السياسي والفضاء المفتوح عبر (وسائل التواصل) واشتراك بني الإنسان جميعاً في ظروف متشابهة، وكل ذلك لا شأن له بالأمراض النفسية ولا بالأطباء الاجتماعيين!

ولنضرب على ذلك مثلاً، يدخل الطفل الحضانة ويبقى يتردد على المدارس إلى سن الخامسة والعشرين فهذه المشكلة لم تكن موجودة عند الشاب في العصور الماضية لأنه كان يكتفي بتعلم القراءة والكتابة والقرآن ومبادئ الحساب وشيء من الثقافة العامة، ولا يبلغ سن الخامسة عشرة إلا ويكون قد أخذ نصيبه من الوعي والمعرفة اللازمة له في معيشته ثم يتزوّج في باكورة صباه، وكذلك البنت بمجرد نزول الحيض تتزوّج فيحملان معاً أثقال المسؤولية ولا يتسع وقتهما لغير شواغلهما البيتية ولا يعيش الشاب إلّا في دائرته الخاصة بخلاف الشاب اليوم الذي يمضي وقتاً طويلاً بالتعلم دون أن يتحمّل أوزار تكاليف المسؤولية، ولا تتيسر له الحياة الزوجية إلا بعد اتمام تعليمه المتهالك!

ومع هذا الخلو من المسؤولية يكون فريسة سهلة لمن ينشرون دعوات الهدم والفوضى، ومع أنه يكون قد تلقّى أنواعاً من المعارف والعلوم في المدارس، إلا أنها لا تكفي لإدراك مشكلات العالم ولا التحديات المحدقة به، فلا يعلم أسبابها ودواعيها ولا خبرة له تمكنه من تقليب وجهة النظر فيها حيث تشتبك معضلات العلم والاقتصاد والسياسة والتشريع أمامه، وبالنهاية يكون بالنسبة إلى أنداده في العصور الماضية أقل منهم قدرة على فهم مشكلاته وتدبير شؤونه، وإن كان أوفر نصيباً منهم في الدرس والاطلاع!

وثمه أمر آخر بين الشاب العصري والشاب من الجيل الماضي... فمثلاً في الماضي كانت سياسة الدول سراً من أسرار القصور لا يطلع عليها غير الملوك وحكام الدول والمقربون إليهم.

أما عوام الناس فهم في أسواقهم ومساجدهم وكتاتيبهم ودواوينهم وفي المقاهي منشغلون!

وكان من نتيجة هذا الكتمان الذي يحيط بأعمال الحكومات أن عيوبهم ونقائصهم ظلت مجهولة مشكوكا فيها فاحتفظوا بالهيبة التي تعصمهم من الابتذال وأحاطت بهم شعائر السلطنة والتوقير التي توجب الثقة والاستقرار.

أمّا اليوم فتجد الشاب يطلع على جميع الأسرار ويراهم - المسؤولين - وهم يتنازعون في ما بينهم ويجتهد كل فريق في إعلان أخطاء خصومه - وليسوا أعداءه - ومنافسيه!

ومن البدهي أن هذه العيوب كانت موجودة في حكام العصور الماضية، وربما كان حكام العصر الحديث خيراً من أسلافهم في كثير من المزايا والصفات، ولكن السابقين كانوا مستورين فكانوا في موضع الحب والاحترام والاطمئنان، أما حكام العصر الحديث اجترأ عليهم المجترئون وتهيئة الأذهان للطعن برئاسة الوزراء والمطالبات بالرحيل، بل قد يجنح الشاب إلى قبول دعوات الفوضى والانقلاب على الجميع خصوصاً إذا كان جيل الشباب خلواً من التجربة قاصرين عن فهم المقارنة بين الماضي والحاضر وبين الحاضر والمستقبل، لاهثين وراء كل صوت سياسي معارض ينادي بالتغيير عن جهل منهم بسوء النية وسوء المصير؟. فأصبح الشاب يرى ويقارن بين جيلين متعاقبين بينهما حرب عالمية وكما وصفها الدستور - لا هوادة فيها - تخللها شر وفساد واتهام للأعراض واختلال في توزيع الثروة بالكسب الحلال أو بالكسب الحرام؟!

ونشأ الجيل الثالث بين هذين الجيلين وكان آباؤهم مشغولين عنهم في ميادين القتال فلم يشعروا بالوازع الأخلاقي الذي كان الناشؤون يشعرون به في ما مضى وينتفعون به في التأني والتريث في الأمور قبل الاندفاع في ما يجهلون عقباه.

الخاتمة:

كل هذه العوارض ترجع إلى الممارسة السياسية ولا علاقة لها بالعُقد النفسية التي يتردّد ذِكرها في كل مناسبة، ومرادنا بذلك أن نرجع ببدعة العقد النفسية إلى حدودها المعقولة وليس صحيحاً تحويل كل داخل إلى هذه الحياة إلى سيارة الإسعاف أو ندخله غرفة الإنعاش!