يقود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ«اتقان» حرب أعصاب «فولاذية» في مواجهة الغرب، الذي أصيب بهستيريا «الحرب المحتملة في أي وقت».
فخصوم الكرملين لا يدركون أنهم وقعوا في شباك الحرب النفسية التي يبدو أن لاعب الشطرنج الروسي الماهر قد بدأها وأجاد التخطيط لخوضها حتى النهاية من دون أن يُطلق رصاصة واحدة حتى الآن، إفساحاً للديبلوماسية الأوروبية التي تعلم أن القارة العجوز هي الخاسر الأكبر في هذه اللعبة الخطرة، التي عبّر عنها بوتين بقوله إنه لا يمتلك أي مكان آخر للذهاب إليه، وتالياً فإنه يلعب بكل الأوراق التي يملكها وبأقل أضرار ممكنة ليخرج من المغامرة - المقامرة من دون خسارة ولا سفك دماء.
تتميز الحرب النفسية بأن لها تأثيرات بعيدة المدى، تستعين بالدعاية والتهديدات وأساليب التضليل أو الترهيب لإضعاف الروح المعنوية والتأثير على طريقة تفكير الخصم وسلوكه، ليصبح أقل ثقة ويشعر باليأس أو الخوف. وما يفعله قائد الكرملين انه بدأ الحرب النفسية بإرسال أكثر من مئة ألف جندي إلى التخوم الأوكرانية ولكن داخل حدود بلاده ليستطيع اتهام خصومه بالهستيريا وقرع طبول الحرب من دون مبرر.
ويقول خبراء غربيون، إن بوتين لا ينوي استخدام الجيش الروسي، لأنه لم يحضر معه الدعم الطبي اللازم، فما كان من الجيش إلا أن نصب خيمة كبيرة فوقها صليب لتكتمل الاحتياجات الطبية، إذا بدأت الحرب.
وتقوم القيادة الروسية بكل مجهودها ليعتقد الجميع أنها ذاهبة إلى الحرب من دون الإعلان عنها، في استدراج للآخرين للقول إن الحرب باتت وشيكة، واتهامهم تالياً من موسكو بإثارة الذعر في العالم والإيحاء بقرب حرب عالمية ثالثة.
ويرى الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ وين بين،أن بلاده تعتقد أن جهود الولايات المتحدة لتأجيج التهديد الروسي أضرت بشدة بالاقتصاد والاستقرار الاجتماعي في أوكرانيا، معرباً عن الأمل في وقف انتشار المعلومات المضللة.
ويعتبر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، من ناحيته، أن الحملة الغربية القائمة على الترويج لتوغل روسي في أوكرانيا «يشكل إرهاباً إعلامياً».
وكانت أميركا زعمت أن روسيا تخطط لغزو أوكرانيا في 15 فبراير، بالتحريض على الاستفزاز في منطقة دونباس الانفصالية أو شن هجوم على كييف.
ووضع حلف الناتو قواته في حالة استنفار استعداداً للأسوأ، وسط كلام عن احتمال نشر المزيد من القوات الحربية التابعة لحلف شمال الأطلسي وبقيادة فرنسا في المنطقة الشرقية، بحسب ما أعلن أمينه العام ينس ستولتنبرغ، الذي لم يلاحظ أي تخفيض للتصعيد ولا يرى سوى زيادة للقوات الروسية.
بينما تؤكد موسكو أنها تقوم بتدريبات عسكرية روتينية. ومن المعلوم أن أي تدريبات يمكن أن تتحول حرباً بسبب استعداد القوات كافة لسيناريو حرب.
هذا الواقع دفع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى قرع طبول الحرب من واشنطن، كما يفعل أيضاً أعضاء إدارته، وقال إن «الهجوم الروسي مازال محتملاً» ليحرف النظر عن القضية الحقيقية المتعلقة بتوسع الناتو على حدود روسيا.
ويذهب وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو (الذي من المفروض أن يقود الحرب المزعومة على أوكرانيا يوم الأربعاء الماضي، كما كان أعلن مستشار الأمن القومي جاك سوليفان) إلى سورية، وقصد قاعدة طرطوس البحرية، للإشراف على مناورة عسكرية في البحر المتوسط تشارك فيها أكثر من 60 طائرة MiG-31K وقاذفات Tu-22M3 الإستراتيجية و140 سفينة حربية وسفن مضادة للغواصات. وقد اعتبرت بريطانيا أن هذه المناورات تطويق لأوكرانيا ونوايا عدائية تجاهها.
وتستفز أميركا في شكل مباشر، روسيا ورئيسها عبر تجييش العالم بذريعة أن «الحرب مقبلة» بغية زرع الخوف من دون أن يكون لديها قوات أميركية مشاركة مباشرة، ومن خلال تسريب نواياها عن توسيع حلف الأطلسي، الذي تسيطر عليه، ليس فقط في اتجاه أوكرانيا وجورجيا، ولكن باحتمال إدراج السويد وفنلندا.
ومن المعلوم أنه في حال افتقر «الناتو» إلى عدو، فإنه يفقد لقمة عيشه وأسباب وجوده، وتالياً تخرج أوروبا عن السيطرة العسكرية الأميركية التي فرضتها مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية.
فبعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان وانتهاء حرب العراق واستقرار الوضع في سورية (رغم بقاء الوجود الغربي في الشمال الشرقي) وغياب سياسة جديدة لبايدن، أخذ وجود الحلف ودوره، يضمحلان خصوصاً أن أميركا تستطيع الذهاب بمفردها إلى الحرب كما فعلت في العراق وليبيا من دون انتظار قرار الأمم المتحدة ومع بعض حلفاء لها دون آخرين.
وكانت أميركا أعطت وعداً للرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشيوف عام 1990، بأن حلف الناتو لن يتوسع ولو شبراً واحداً، وفقاً لوثائق سرية سربها الكرملين وانطوت على تفاصيل الاتفاق، كالتزام قطعه وزير الخارجية الأميركي حينها جيمس بيكر باسم الولايات المتحدة. إلا أن وزير الحالي أنتوني بلينكن ادعى أن الحلف «لم يتعهد قط عدم التوسع شرقاً».
وتالياً فإن من الصعب تصديق الوعود الأميركية، في الاتفاقات التي عقدتها في الماضي البعيد والقريب.
وقد ظهر ذلك في أفغانستان عندما فاوضت على انسحابها في عهد دونالد ترامب وأكمل التفاوض بايدن ليجمد 7 مليارات تعود لحكومة أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي ومن دون أي سبب يذكر.
وكذلك إدارة ترامب مزقت الاتفاق النووي وفرضت العقوبات القصوى على إيران، التي أبقى عليها بايدن، ويبدو أنه يجد صعوبة في العودة إلى الاتفاق وتقديم ضمانات لا يستطيع أي رئيس أميركي الالتزام بها.
وكانت أميركا انسحبت من معاهدة القوات النووية متوسطة المدى (INF) و«السماء المفتوحة». كما انسحبت من معاهدة الصواريخ البالستية المضادة للصواريخ قبل 20 عاماً باسم توسيع الدفاعات الصاروخية والتي أدت إلى سباق تسلح.
وتحاول حالياً محاصرة بوتين لتخييره بين الأمن القومي الروسي ومنع انتشار «الناتو» وعدم السماح لأميركا بنشر صواريخها على بعد دقائق من موسكو، وتالياً، الذهاب إلى الحرب وقلب النظام في كييف، وبين الاقتصاد الذي سيتضرر من جراء عقوبات قصوى تتحضر لها الولايات المتحدة وأوروبا، لتحاصر بوتين داخلياً وتضرب انتعاش بلاده على المستوى الاقتصادي وتعيد تجربة حصار الاتحاد السوفياتي السابق.
وبيت القصيد من وراء سعي بايدن لوضع بوتين أمام خيارات صعبة، يتجلى في المصلحة الأميركية بضرب اقتصاد روسيا إذا ذهبت للحرب وجرها إلى المستنقع الأوكراني قبل التوجه نحو الصين وإضعاف الحلف الروسي - الصيني القوي، عسكرياً واقتصادياً.
أكد بوتين أنه ليس لديه مكان ليتراجع فيه، وقال لحلف شمال الأطسي، «توقف». وذهبت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس لتطلب من روسيا سحب قواتها من روسيا (على الحدود الأوكرانية)، ليصف لافروف هذه المناقشات بأنها «محادثة بين البكم والصم».
لقد كانت أوكرانيا إحدى جبهات التقدم لقوات هتلر نحو موسكو عام 1941، وتالياً فإن سقوط كييف بأيدٍ معادية سببت باعتقاد خاطئ لألمانيا النازية والزعيم الألماني «بقرب هزيمة الاتحاد السوفياتي وأن أوكرانيا ستكون مصدراً للزراعة ومصدراً للأيدي العاملة».
وتالياً فإن قيصر الكرملين لن يقبل أن تتكرر التجربة بعد 80 عاماً، ومن الطبيعي أن يختار الأمن القومي على أي اعتبار آخر من دون خوض الحرب ومساوئها.
روسيا تحمل غصن الزيتون بيد وبندقية الكلاشنيكوف بيد أخرى. وهي لن تقبل أحادية حكم العالم، وتدرك أن أوكرانيا ليست سبب الأزمة بل نتاج تفنن أميركا برفضها النزول عن العرش بعدما أصبح هناك دولاً عدة ترفض هيمنتها.
فروسيا تعلم أن العالم يراقب تحركاتها عبر الأقمار الاصطناعية، وهي تتلاعب بمصداقية أميركا المهزوزة، عبر إعلان الأخيرة عن بدء الحرب في كل أسبوع.
ومن الواضح أن روسيا تعتمد على هذه الهستيريا لتدفع أوروبا في اتجاه إيجاد الحلول، لأن الضرر الأكبر سيقع على القارة العجوز في حال نشوب حرب على حدودها.
ولهذا فقد نشط كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس بزيارات مكوكية بين موسكو وكييف في محاولة لدفن «فأس الحرب» الأميركية باسم حلف الأطلسي وتمدده على مقربة من موسكو.
ومن الواضح أن كلفة تحريك الجيوش الروسية إلى الوضعية الهجومية أقل بكثير من الذهاب إلى الحرب. وهذا يدل عن ذكاء اللاعب الروسي الذي لم يترك طريقاً إلا وسلكها لحماية أمن روسيا من دون إطلاق رصاصة واحدة، إذا استطاع، وجعل الاستخبارات الأميركية - التي تزود البيت الأبيض بالمعلومات عن وضعية ونوايا جيش الكرملين - «أضحوكة العالم».
فموسكو مستعدة لحوار الأقوياء ولن تتنازل عن أمنها القومي مهما ارتفعت قرقعة السلاح وطبول التهويل... فخيار الحرب هو آخر المطاف وليس أوله.