لا يحلو النهار من دون... «النهار»!!

8 فبراير 2022 09:55 م

الناس تقول في السر والعلن، إن العدو الصهيوني لم يفعل بلبنان واللبنانيين ما فعلته وتفعله قوى الأمر الواقع وأركان المنظومة الحاكمة! ومن المُحزن القول إن أوضاع عرب إسرائيل في ظل الاحتلال الإسرائيلي... أفضل من أحوالنا !!

الأوضاع المأسوية المذرية من جوعٍ وألم والانهيار المريع والمؤلم، الذي طاول جميع القطاعات من دون استثناء... كل ذلك لم يرأف بهذا الوطن المعلَّق على صليب الممانعة والمصالح الإقليمية، إضافةً إلى المصالح الخاصة والشعبوية والطائفية لأركان المنظومة الحاكمة...

العدو الصهيوني الذي يُصنّف طهران كعدوّةٍ له، أغلب الظن أنه ممتنُّ لذلك العدو الذي أسدى له عمداً أو عن غير عمد خدمة لا تقدَّر بثمن، زعزعة أربعة مجتمعات عربية، اليمن، العراق، سورية ولبنان! لبنان المتماسك بنويّاً ووطنيّاً، المتين اقتصاديّاً ماليّاً ونقديّاً، الرائد ثقافيّاً وحضاريّاً، لبنان الرسالة الذي وصفه الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي كحاجة إلى منطقة الشرق الأوسط... ألا يشكل قلقاً لإسرائيل، مقارنةً بلبنان المتهالك الضعيف المُنهَك؟

يكفي الاستشهاد بما ذكره البنك الدولي في تقريره الأخير، بأن «الكساد المتعمّد في لبنان هون من تدبير قيادات النخبة التي تسيطر منذ وقتٍ طويل على مقاليد الدولة وتستأثر بمنافعها الاقتصادية ( النهار 26-1-2022»).

سبق ذلك ما صرح به القائم بأعمال السفارة الإنكليزية Benjamin wastnage قبل مغادرته النهائية بيروت «لقد أنفق القادة اللبنانيون موراد بغير مبالاة وبما يفوق قدرته على التحمُّل. ولبنان اليوم على شفير الإفلاس. لقد صبَّت النخبة السياسية تركيزها على تقسيم قالب الحلوى ولم تأخذ بالاعتبار يوماً أن تخبز بدلاً منه!!» (النهار21-9-2021).

في لقاء خاص جمعني مع سفيرٍ مُعتمد في لبنان قال لي:» يؤسفني القول إن لا أمل يُرجى من إنقاذ سريع. كان هناك أمل لو تضافرت جهود النخبة الحاكمة في أواخر أكتوبر 2019 وتم تأليف حكومة مستقلّين، تسديد سندات اليورو بوند، البالغة آنذاك مليار ونصف المليون دولار بدلاً من التخلّف عن السداد، الأمر الذي أدّى إلى إغلاق أسواق المال العالميّة بوجهكم وزعزعة الثقة بكم... اطلاق المباحثات مع صندوق النقد الدولي لكن مع الأسف لم يحصل ذلك.

للتذكير، يومها، كان سعر صرف الدولار في السوق الموازية 2000 ليرة. أظن أنكم مقبلون على فنزويلا أخرى، أعني كساداً طويل الأمد سيستمر حكماً سنوات وسنوات!!

في ضوء ما سبق، أضحى مملاً من كثرة ما نقرأ ونسمع عن تشخيص واقعنا الحالي وعن العلاج المطلوب، لذلك أرتأيت اليوم أن أكتب عما يشرح الصدر والقلب، عما يثير فينا الأمل بأيام أفضل. أعني عن «النهار» الرائدة بموضوعيتها وحرفيّتها منذ تأسيسها... عن ضوء لم يخفُت منذ أكثر من 80 عاماً.

وددتُ الكتابة اليوم عن «النهار»، عمّا يشرح الصدر والقلب، عمّا يثير فينا الأمل بأيام أفضل في هذه الأيام المظلمة الكالحة حيث تسود العتمة ليس فقط في البلد الذي كان يُكنّى ببلد النور بل تسود العتمة قلوبنا ونفوسنا، ولأنّه بمجرّد استمرار صدورها لا بل صمودها تشكل لنا جميعاً بارقة أمل وبصيص نور.

ولقد حفّزني للكتابة عن «النهار» ما قرأته عن افتتاح مقرٍّ لها في إمارة دبي «لترسيخ حضورها العربي الذي طالما تميّزت به منذ تأسيس النهار 1933 ولم تتخلَّ عنه في الظروف القاهرة التي تعصف بلبنان» («النهار» 19-1-2022).

أضاف الخبر «أن مجموعة النهار بما فيها مولودها الجديد النهار العربي ستحاكي حاجة الجمهور العربي إلى الخبر الموثوق والتحليل العميق وأن النهار تؤكد على الاستمرار بمسيرتها ومواصلة معركتها من أجل لبنان ومن أجل عالم عربي أكثر حداثة وتطوّراً».

في هذا الصدد، وصفت رئيسة نادي دبي للصحافة منى المري إعلان افتتاح «النهار العربي» مكتباً في دبي بـ «اللحظة التاريخية». مضيفة: «أنا سعيدة جداً بهذه الخطوة التي اتخذتها النهار والتي ستأخذ العالم العربي إلى الاعلام في المرحلة الجديدة» («النهار» 20-1-2022).

ثم انّ «النهار» سبّاقة دائماً إلى أخذ المبادرات وكان آخرها عدم صدور النسخة الورقيّة ليوم (2-2-2022) وتخصيص كلفة طباعتها للمساهمة والتبرّع بها لوزارة الداخليّة للمساهمة بتغطية تكاليف ومتطلبات الانتخابات النيابية المرتقبة وانطلاقاً من الآية الكريم {وإذا حييتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردُّوها} أقول إنه من المتوجّب علينا نحن قراء «النهار» ومحبيها تنظيم حملة لدعم استمرارية النهار والذي يُشكّل استمرار صدورها تحدّياً في خضم الأزمات العنيفة والمؤلمة التي يشهدها لبنان.

ولادة «النهار» تعود إلى 1933، على يد جبران التويني، أيام الانتداب الفرنسي حيث تعزّز تدريجيّاً دور الطوائف في صياغة المسار السياسي.

من هنا، وللتخفيف من وطأة الثنائية المارونية - السنيّة، والتي ارتكز عليها البيت اللبناني، برز سعي طائفة الروم الأرثوذكس لبلورة دور ما للطائفة... فولدت «النهار» 1930.

قبل ذلك، أسس انطون سعادة، الحزب القومي السوري متكّئاً على قاعدة أرثوذكسية واضحة.

لاحقاً اطلق المطران خضر وأربيل لحام حركة الشبيبة الأرثوذكسية. لكن ولادة «النهار» الفعليّة تزامنت في ستينيات القرن الماضي زمن الشهابيّة.

غسان تويني، نجل المؤسس خرّيج هارفرد، كان رمز المشروع وبطله. حبّه للتجديد والمغامرة ولديناميّته ويقظته الحادّة على الحدث والطارئ كانت تدفعه في الاتجاه هذا.

الاستغناء عن «النهار» كان يرسم لصاحبه وجه المغفّل والمفوّت (حازم صاغيّة، «النهار وآل تويني» - «الحياة» 12-12-2017).

كانت «النهار» ولا تزال رائدة ليس فقط في مضمونها بل حتى في شعارها. يكتب خالد المالك صاحب ورئيس تحرير صحيفة «الجزيرة» السعودية «...وكلما رأيت الديك الأزرق - وهو شعار صحيفة النهار - ينتصب في صفحتها الأولى كما لو أنّه يتهيّأ للصياح، لإيقاظ الناس، لقراءة صحيفة النهار المثيرة للجدل، كلّما تذكّرت اختياري لشعار صحيفة الجزيرة في بداية صدورها يوميّاً أوائل السبعينات من القرن الماضي» (خالد المالك، مُلحَق الجزيرة الثقافية (3-3-2008).

نجح غسان تويني في مَأْسسة «النهار»، ابتداء من منتصف الستينات، فأخذت «مؤسسة التحقق من الانتشار» تبلغنا في آخر صفحة عن كمية الاعداد التي تم طبعها، اضافة الى نشر الميزانية السنوية للصحيفة. أما على الصعيد التحريري، فأضحت «النهار» مشابهة لـ«هيرالد تريبيون» – ولو على الصعيد العربي - من خلال تحقيقات محرريها، كلٌّ في نطاقه الجغرافي، فكان هناك، فؤاد مطر (مصر والسودان) رياض نجيب الريس (الخليج) وفيق رمضان (الاردن وفلسطين) سمير عطاالله وعبدالكريم ابوالنصر (دوليات).

اضافة الى ذلك، كانت هناك الملاحق الثلاثة كل يوم أحد، والتي شكلت اثراء اعلاميّاً بارزاً. المُلحق السياسي/الأدبي برئاسة أنسي الحاج، الاقتصادي برئاسة مروان اسكندر ومُلحق الرياضة والتسلية.

أضحت «النهار» إلى حدٍّ ما شبيهة بعدد «نيويورك تايمز» يوم الأحد حين كانت تصدر مع ملاحق يجعل من وزن الصحيفة يصل إلى كيلوغرام.

كذلك أولت لقضايا الثقافة حيّزاً مهمّاً فتم تخصيص صفحة دائمة لقضايا الثقافة (شوقي ابو شقرا، عصام محفوظ وآخرون، إضافة إلى مواضيع السينما، سمير نصري...).

كانت «النهار» سبّاقة حين اعتمدت مراسلين في المحافظات إضافةً إلى مندوبين في العالم العربي وبعدها في العواصم العالميّة المهمّة. وأولت الكاريكاتور حيّزاً مهمّاً، فكان من المعتاد أن يبدأ المرء بقراءة المانشيت في الصفحة الأولى وبعدها ينتقل إلى الصفحة الأخيرة لكاريكاتور بيار صادق.

تحيّة غسان تويني كل اثنين اضافةً إلى تفرّدها بالبعد السياسي والتحليل العميق شكّلت مرصداً للآتي من الأحداث. أما ميشال أبوجودة، فبحسب إحدى الروايات، فإن قراءة مقالات جمال أبوجودة، كان أول ما يفعله جمال عبدالناصر (حازم صاغيّة، المرجع السابق).

ابتداء من عام 1975، حين انطلقت شرارة الأزمة (المُلفت أن غسان تويني رفض نقل مقر «النهار» من شارع الحمرا إلى الأشرفية تمسُّكاً منه بوحدة لبنان وبيروت...) ولغاية 1990، بداية الوصاية السورية على لبنان، ورغم كل ذلك المخاض، نجحت «النهار» انطلاقا من موضوعيتها ورصانتها، وبعدها عن «الفبركة» الاعلامية الرخيصة، في المحافظة على مكانتها ودورها. ويقيني ان حرصها على تنوع الآراء، واحترامها الرأي الآخر، عاملان، يشكلان جوهر حيويتها.

لابد لـ «النهار»، وهي الرائدة دوماً في التفكير الرؤيوي والسباقة دائماً الى الجديد ان تطرح على نفسها اكثر من سؤال، في محاولة لايجاد رؤية مستقبلية، وذلك لضمان ديمومتها، في ضوء الافول المرتقب للعهد الورقي، والضغط المالي الناتج ربما من شح مرتقب في الموارد الإعلانية، في وقت يزداد فيه العمل لتسخير أكثر، لوسائل التكنولوجيا الجديدة في حقل المعلوماتية والإنترنت. والحق، ان ما أطرحه يشكل تحدياً كبيراً، أنا على يقين أن «النهار» هي على مستوى هذا التحدي.

الموضوعية والتجرد كانا السمة الغالبة التي طبعت «النهار» منذ تأسيسها، ولحينه، ولعلها أحد أسباب ريادتها. وما يميز «النهار» عن غيرها من الصحف اللبنانية، أنها لم تكن شاهدة على الحدث فحسب، بل أحد صانعيه.

فإذا كانت «واشنطن بوست» أسقطت الرئيس نيكسون عام 1974 بعدما فضحت ما جرى في «ووترغيت»، ابتداء بنشر سلسلة تحقيقات عام 1972، فإن «النهار» ساهمت بشكل فعّال - ويا للأسف - في إسقاط الشهابية عام 1970، ولو أن جهاد الخازن كتب في «الحياة» نقلاً عن الراحل الكبير غسان تويني، ندمه لتأييد سليمان فرنجية («آخر أمراء الصحافة اللبنانية» - «الحياة» 6-9-2012)، علما أن الرد الشهابي على نقد «النهار» الصارخ للشهابية، لم يرتقِ الى ما فعله فرنجية، حين انقطعت الإعلانات عن «النهار» بعد ضغوط مارسها المفوض في الأمن العام زاهي البستاني على وكالات الإعلان!

أتمنّى أن تستجمع «النهار» قواها وقواتها لتحرك الحياة السياسية الراكدة وتؤدي دوراً محورياً مماثلاً في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟

وما دام الحديث عن «النهار» صحيفتي المفضلة، فلابد أن أشير إلى نقطتين في ما يتعلّق بتغطية «النهار» للأخبار المحليّة. يُلاحظ أن محرريها أضحوا يتوزعون على المسؤولين طبقاً، يا للأسف، لمذاهبهم. ويبدو أن واقع الأمر مع الأسف يحتّم ذلك.

فالماروني مُعتمَد لدى رئاسة الجهمهورية، والشيعي لدى رئاسة المجلس النيابي، والسني عند رئيس الحكومة!

سقى الله زمناً، كان فيه حنا غصن الصحافي المعتمد لدى الرئيس رياض الصلح، واسكندر الرياشي صاحب «الصحافي التائه» ووالد الكاتب الساخر مارك رياشي، الجليس الدائم للرئيس سامي الصلح (بابا سامي، أبوالفقير... هل من يتذكر؟) والصحافي الكبير جورج نقاش «ناطقاً» باسم الرئيس فؤاد شهاب. كان ذلك زمن الأيام الحلوة... بكل مقاييسها.

الملاحظة الثانية، وهذا ما يسري في صحف أخرى أن يُنسَب الخبر أو التحليل إلى ما يُسمّى بـ «مصدر مضطلع» و/أو مصدر رسمي أو ديبلوماسي، وأحياناً يُقال مصادر ديبلوماسية وقد لا يكون ذلك صحيحاً.

وفي هذه الصدد، أورد ما كشفته الصحيفة الألمانية المرموقة «دير شبيغل» أن الصحافي البارز فيها كلاس ريلوتيوس الذي أسبق أن حاز جوائز عديدة، كان منذ سنوات عديدة يختلق بشكل جزئي أو كامل مضامين مقالات، الأمر الذي أدى إلى وقف خدماته («فرانس برس» 29-12-2018).

ويبدو أن تلك العلّة أضحت إشاعة في معظم الصحف حتى العالميّة منها الأمر نفسه، حدث مع «نيويورك تايمز» حين أوقفت عن العمل في مايو 2004، خدمات جايسون بلير، أحد أهم محرريها بعدما تبين أنه كتب أكثر من تحقيق صحافي، من دون أن يغادر مكتبه!

بين جبرانين بارزين، واحد بالريادة هو جبران الأول مؤسس «النهار»، والثاني بالشهادة رمز الانتفاضة السياسية لحفظ السيادة الوطنية من أجل مسيرة السيادة والحريّة والاستقلال، تبوّأ غسان تويني دور المنارة المستمرة بالعطاء السياسي والمهني والأدبي بسخاء ويقظة على الذات لا يقدر عليها إلا القلّة من التاريخيين. والذي يعزّز تعزيز هذا المسار لا بل المسيرة أن نايلا تويني نجحت وبرزت برفع ذلك المشعل بثبات وعزم.

أخيراً استشهد بما كتبه الصديق سجعان قزي وزير العمل السابق (لا تنكرنَّ «النهار» قبل صياح ديكها «النهار» 13-2-2020).

لبنان من دون «النهار» هو النهار من دون شمس والليل من دون قمر. هي باريس من دون قوس النصر، ونيويورك من دون تمثال الحرية، ولأن جميع هذه ثوابت «فالنهار» مستمرّة! أما انا فأضيف: «لا يحلو النهار... من دون النهار»!!