بوتين البارع بـ«الشطرنج» يملك أوراقاً وخيارات

هل تدافع أميركا عن عرشها باقتياد أوكرانيا إلى الحرب؟

27 يناير 2022 09:30 م

لم يعد الإسلام، العدو للعولمة، لأن روسيا والصين أخذتا مكان الشرق الأوسط كـ«بنك أهداف» أميركي، تريده الولايات المتحدة لتثبيت هيمنتها على العالم.

فموسكو وبكين تؤشران إلى التعددية الدولية وإلى إنهاء الهيمنة الأحادية الأميركية.

وهذه هي أحد أهم الأسباب التي تدفع أميركا لجرّ روسيا إلى حرب في أوكرانيا بهدف إبطاء الصعود الروسي وحلفه من المناهضين للهيمنة الأميركية.

والسؤال الذي ازداد حضوراً أخيراً: هل يقع الرئيس فلاديمير بوتين في الفخ أو يمارس لعبة الشطرنج التي تجيدها روسيا فيقلب الأمور إلى مصلحته ويهاجم المصالح الأميركية في حديقتها الخلفية؟ من الواضح أن بوتين، الذي تلقى الرسالة الأميركية ويدقق في مضمونها، ينتظر ما إذا كان حلف الناتو سيتراجع عن قراره أو أن الأمور ستذهب إلى مستوى خطر من التصعيد.

لم يعد مهماً أن تعترف أميركا بفقدانها الأحادية على العالم وتقر بتعدد الأقطاب، لأن ذلك أصبح واقعاً لا مفر منه رغم من مقاومة واشنطن العنيف لهذه الحقيقة ورفض تقبلها.

وها هي تكابر فتُبقي قواتها في العراق وسورية رغماً عن رغبة الشعوب والحكومات، وتتدخل في البلقان وتفرض العقوبات المشددة على فنزويلا وكوبا وإيران وتدفع أوروبا، التي لا إرادة لها، إلى حرب مع أوكرانيا وتزج آلاف القوات الأميركية الإضافية في أوروبا.

ويقول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ان «سياسة الغرب تتمثل في تقويض بنية العلاقات الدولية على أساس ميثاق الأمم المتحدة، لتستبدله بقانون دولي خاص بها، لديه قواعد أميركية تفرضها على الآخرين لتكريس نظام عالمي جديد».

وهذا يعني أن روسيا والصين وإيران تحمل لواء محاربة الهيمنة التي تتزعمها أميركا دون ان يعني ذلك عدم رغبتها بالتبادل التجاري - الاقتصادي معها.

وتنتظر هذه الدول المناهضة لحكم الأحادية الدولية أن تدافع أميركا عن نفسها بشراسة. إلا أنه ينبغي على واشنطن ان تتوقع عدم وقوف الطرف الآخر مكتوف الأيدي وهو الذي يستمر ببناء قدراته للسنوات المقبلة بعد أن إستطاعت الولايات المتحدة أن تبني أمبراطوريتها منذ الحرب العالمية الثانية، وتالياً فإن المعركة شرسة وستستمر لا محالة إلى حين تقبل أميركا للواقع الجديد.

ولن يقبل أي رئيس أميركي الاعتراف بخسارته عرش العالم ونزوله عن الشجرة لكي لا يرمز اسمه في التاريخ إلى تقهقر الامبراطورية الأميركية التي بنتها الولايات المتحدة بالحروب والدمار ومآسي الشعوب التي تتعرض لأقسى العقوبات... ولكن دائماً باسم الديموقراطية.

ولم تتخذ روسيا القرار بالذهاب إلى الحرب في أوكرانيا رغم وجود أكثر من 110000 جندي روسي في المناطق الحدودية، وفي جزيرة القرم يقابلهم عدد مماثل من الجهة الأوكرانية.

وذلك لأن موسكو تعلم ان أوكرانيا لا دخل لها بالقرار النهائي لأن الولايات المتحدة تفاوض عنها مع روسيا وأن الحرب هي مع وكلاء أميركا المستعدة، باسم حلف شمال الأطلسي (الناتو)، للقتال بآخر أوكراني دون خسارة جندي أميركي واحد.

ولغاية اليوم، فإن واشنطن تحرص على أن تكون نتائج المفاوضات مع موسكو سلبية لاستنزاف روسيا وإظهارها كدولة معتدية، على الرغم من تعدد الأوراق في جعبة بوتين وعدم استنزاف المحاولات الديبلوماسية.

ففي المناطق الحدودية الأوكرانية، وداخل أوكرانيا، أكثر من 650.000 مواطن روسي يعيشون هناك وتستطيع روسيا التدخل باسم الدفاع عنهم وحمايتهم.

ولن يتأخر الرئيس الروسي عن فتح جبهات أخرى ليظهر عدم ضعفه أمام أميركا ومنعها من التمادي في مناطق أخرى مستقبلياً إذا فشلت الحلول الأخرى ورفعت الخطوط الحمر.

فهو يعلم أن سياسة الردع هي الوحيدة الكفيلة بلجم التحرشات الأميركية المستمرة وان عدم استخدامه المطرقة الغليظة وإظهار أسنانه قد يدفع الولايات المتحدة بفتح جبهات أخرى كجزء من دفاعها عن أحاديتها وهيمنتها العالمية.

ولم تقل روسيا كلمتها الأخيرة بعد، إلا أنها وضعت كل الخيارات على الطاولة وهي تدرك أن الحرب مع أوكرانيا ستضر بالاقتصادين الروسي والأوكراني، في الوقت الذي تتعامل أميركا مع أوكرانيا على إنها جزء من«الأضرار الجانبية» بالنسبة للولايات المتحدة التي يمكن أن تضحي بها ما دامت قبلت كييف بأن تكون أداة سلاح بيد الناتو (أميركا) تحت أعين أوروبا المتفرجة والعاجزة.

ولن تستطيع أميركا فعل أي شيء في مجلس الأمن لأحقية روسيا والصين بالفيتو، خصوصاً ان مجلس الأمن هو أداة بيد الولايات المتحدة التي تتخطاه - مثلما فعلت في العراق وليبيا - بالذهاب إلى الحرب أو أخذ القرارات من دون العودة إليه وإلى قراراته.

استولت روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014 عندما أطاحت أوروبا - بدعم أميركي - بالرئيس الموالي لموسكو، كما استولى الموالون لموسكو على مساحات شاسعة من المنطقتين الشرقيتين لأوكرانيا، المنطقتان المجتمعتان تحت اسم دونباس، وتالياً فان الكرملين يملك أوراقاً عدة خصوصاً ان نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف قارن الوضع الحالي بـ«أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962» عندما اقتربت أميركا وروسيا من صراع نووي.

إذاً المطلوب هو توقف تمدد الناتو (أميركا) وصواريخه النووية، الذي بلغ بولندا ورومانيا والذي يتمدد إلى جمهوريات البلطيق في أستونيا ولاتفيا وليتوانيا.

ويبرر «الناتو» أنه هو «من يُقرّر من يسمح بالانضمام إلى الحلف والأمر متروك لأوكرانيا و30 من الحلفاء وليس لروسيا حق النقض في التدخل».

يبدو أن أدوات أميركا القصوى هي العقوبات الاقتصادية والمالية ومنع افتتاح خط «نورد ستريم - 2» الذي يوصل الغاز إلى المانيا بسعر ذهيد، فقط لانه شُيّد على أساس علاقة طويلة استراتيجية بين روسيا وأوروبا التي لا تجد أحداً يوصل إليها الغاز التي تحتاجه بسعر منافس للغاز الروسي.

ولم تعد روسيا تعتمد على إنتاجها الغازي الذي لامس منذ أعوام عدة أكثر من 70 في المئة من مدخولها الاقتصادي. أما اليوم، فإن الأمور اختلفت جذرياً.

فموسكو هي أكبر مصدر للحبوب في العالم، والثانية في صادرات الأسلحة، وأكبر مصدر للمفاعلات النووية المعقدة.

ويعتمد ثلثا الاقتصاد الروسي على الخدمات.

وهي تعد من أوائل الدول ذات أكبر اقتصاد في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي الرسمي (PPP).

وتصنع روسيا الصواريخ الفضائية، والتوربينات الغازية، ومحطات الطاقة النووية، وبلورات الياقوت الاصطناعي، وأنظمة التبادل الحراري للطائرات، والسيارات، والمروحيات، والآلات الزراعية، والقطارات، والهواتف، وأجهزة الكمبيوتر العملاقة، والأقمار الاصطناعية.

وقد صدرت لأميركا وحدها عام 2019 بمبلغ 22.3 مليار دولار، منها 9.46 مليار دولار من النفط ومشتقاته، 2.58 مليار دولار من البلاتينيوم والأحجار الكريمة ومحركات الصواريخ الفضائية، والألمنيوم والكاوتشوك.

أما الولايات المتحدة، التي تصنف كأغنى دولة في العالم، فقد قاربت ديونها الـ 30 تريليون دولار.

وقد هدد بوتين بقطع العلاقات مع أميركا إذا لم تجد حلاً يرضي روسيا في أوكرانيا، مما يدل على حجم وجدية وخطورة الأزمة الحالية.

ولكن يبدو أن الغرب لا يستمع للرئيس الروسي الذي قال ان بلاده «ليس لديها مكان آخر تتراجع إليه... هل يعتقدون أننا سنبقى مكتوفي الأيدي؟».

لن يذهب بوتين إلى الحرب كخيار أوحد وقبل استنزاف خيارات أخرى تؤلم الرئيس جو بايدن وتقلّم أظافره في حديقة أميركا الخلفية، أو بتسليمه أسلحة متطورة إلى دول تقف في وجه أميركا وكانت روسيا ترددت بمساعدتها سابقاً منعاً لاستفزاز واشنطن.

فالرئيس الروسي معروف بذكائه وتريثه ولكن ليس بجُبنه وتردده.

وما هي خطوة بريطانيا وأميركا بتسليم أسلحة إلى أوكرانيا سوى دليل على تصميم أميركا بجر روسيا إلى الحرب بالقوة.

لم تتوقع روسيا ولا الصين ولا إيران ولا «دول البريكس» أن تستسلم أميركا بسهولة وتنزل عن العرش الذي تربعت عليه لعقود طويلة امتدت إلى أكثر من 75 عاماً.

لكن على الولايات المتحدة ألا تتوقع بأنها باقية وتتمدد إلى الأبد.

فلم يعد بعيداً وقت نزولها، أو إنزالها، عن الشجرة.