أدوار وخفايا ومكائد من خلف الستار

هل ينجح المالكي بإحداث تصادم شيعي - شيعي تحت أعين إيران؟

13 يناير 2022 10:00 م

لم يشهد العراق انقساماً حاداً بين الشيعة في الأروقة السياسية والشارع مثلما يحدث اليوم، غداة الانتخابات النيابية التي أفضت الى فوز التيار الصدري بالغالبية البرلمانية (73 مقعداً) وتصرفه على هذا الأساس في أول اجتماع للمجلس لانتخاب رئيسه ونائبيه...

والأكثر وطأة، هو أن الخلافات لا تحدث فقط بين الأحزاب الشيعية التي أطلقت على نفسها اسم «الاطار التنسيقي» وبين التيار الصدري. بل إن «الاطار» نفسه بأعضائه المختلفين بدا غير متجانس وأسير أجندات متباينة لمكوناته. وهذا ما من شأنه فتح شهية أعداء العراق لاشعال فتنة نارها تحت الرماد وأبطالها الشيعة أنفسهم.

وفي هذا السياق يعتبر رئيس الوزراء السابق نوري المالكي عرّاب الخلاف الشيعي - الشيعي الذي لابد من أن يجد حلاً له قبل نهاية الشهر الجاري، موعد اختيار رئيس الجمهورية العراقي وانتخابه.

عندما حصلت الانتخابات البرلمانية في ديسمبر عام 2005، فاز التحالف الشيعي المسمى «الائتلاف العراقي الموحد» رقم 555 بغالبية 129 مقعداً من أصل عدد أعضاء البرلمان البالغ في حينه 275 مقعداً.

وتالياً فقد كان يحتاج الى تسعة مقاعد فقط للحصول على الأكثرية النيابية (138 مقعداً).

وبسبب الخلاف الذي حصل بين صفوف الائتلاف الشيعي، قررت الأحزاب القوية حينها، وعلى رأسها المجلس الأعلى و«منظمة بدر»، ازاحت رئيس الوزراء ابراهيم الجعفري شرط اعطائه صلاحية اختيار رئيس الوزراء من حزبه.

فكان الأمر من نصيب نوري المالكي الذي عُرض اسمه على السلطات الأميركية المحتلة فوافقت عليه كرئيس للوزراء المقبل.

ومن البدهي القول إن حكم المالكي أظهر استئثاره بالسلطة وعدم اشراك الآخرين معه، ولا سيما من الأحزاب الشيعية القوية، الى أن حصلت معركة «صولة الفرسان» عام 2008 حين أعلن المالكي عن مهلة للتيار الصدري لتسليم سلاحه في غضون ثلاثة أيام أو التعرض للقتل والانهاء.

وهذا ما أشعل وللمرة الأولى القتال الشيعي - الشيعي وسط مفارقة بالغة الحساسية، وهي ان القوات المهاجمة كانت تدعمها القوات الأميركية المحتلة ومعها جميع أعداء التيار الصدري.

ولم تكن المرة الأولى أيضاً التي يحاول قادة العراق القضاء على التيار الصدري. فقط سمح الشيعي اياد علاوي، رئيس الحكومة الموقتة المعينة من الولايات المتحدة، للقوات الأميركية بالهجوم على مدينة النجف الأشرف عام 2004 للقضاء على التيار الصدري خصوصاً على «جيش المهدي» الذي أسسه السيد مقتدى الصدر، ابن الراحل آية الله العظمى محمد صادق الصدر وصهر آية الله محمد باقر الصدر، وهما اللذان شكلا عمدة الفكر الشيعي وجبهة المعارضة لنظام صدام حسين.

وحاول (وفشل) ساسة العراق التقرب من الصدر من أجل سحب البساط من تحت قدميه لصغر سنة وامتلاكه - من خلال ما ورثه عن والده - شعبية تعد الأكبر في العراق، خصوصاً انها تنتشر بين البسطاء والفقراء الذين يعلنون الولاء المطلق لآل الصدر.

فشل علاوي كما فشل المالكي في القضاء على مكانة الصدر وإرثه. الا أنه في عام 2010 كان على الأبواب ومعه انتخابات نيابية أعطت المالكي 89 مقعداً بينما حصل علاوي على 91 مقعداً في البرلمان.

دفع علاوي ثمن اتهامه من الأحزاب الشيعية بأنه حليف الحزب البعثي وأميركا، اذ التفت الأحزاب الشيعية حول المالكي في تحالف ذهبوا به الى البرلمان مع أول تفسير مختلف للدستور لناحية من يمتلك الكتلة الأكبر ويحق له اختيار رئيس الوزراء.

وطرحت للمرة الأولى مسألة، هل يأخذ القيادة من حصل على العدد الأكبر من المقاعد قبل آداء القسم أو تحت قبة لبرلمان وبعد التحالفات؟

هذا العذر استخدمه الشيعة للانقلاب على اياد علاوي واقصائه ومنعه من العودة الى رئاسة الوزراء.

الا أن الأحزاب الشيعية لم ترد المالكي الذي وافقت عليه أميركا لولاية ثانية - كما قال السفير الأميركي زلماي خليل زاده في مقابلة شهيرة - لأن المالكي لا يتقاسم الحكم مع أحد ولا يلتزم بوعوده.

الا أن التحالف الشيعي ارتضى على مضض عودة المالكي بعد تعهد وقع عليه موفده وممثله الشيخ عبدالحليم الزهيري، لكنه نقض العهد تحت أنظار القادة الشيعة الذين انتظروا الفرصة السانحة لدفعه الى خارج الحكم واختيار حيدر العبادي (من حزب الدعوة) عام 2014، خصوصاً بعد ظهور «داعش» واحتلاله ثلث العراق. وعلى الرغم من الاعتقاد بوجود مؤامرة عراقية - اقليمية - دولية لتمزيق العراق عبر دعم أهداف «داعش»، الا ان السواد الأعظم اتهم المالكي بالتقصير وعدم الاصغاء للتحذيرات التي أعطيت له عن الخطر الذي كان يحدق بالموصل والعراق ككل.

في العام 2018، وبعد الانتخابات النيابية، رفضت الأحزاب الشيعية عودة «حزب الدعوة» الى الحكم وأعطيت رئاسة الوزراء الى عادل عبدالمهدي، لأن عدداً كبيراً من قادة الشيعة ارادوا الكرسي لأنفسهم.

فحصل توافق لم يرضِ أحد من هؤلاء لكنهم قبلوا به لادراكهم أن عبدالمهدي لا يمتلك إرث أحزاب سياسية قوية.

وهو عمل باحتراف، الا ان أميركا فعلت ما في وسعها لتنجح في ابعاده عن الحكم من خلال ثوراتها الملونة.

وبعد تقديم عبدالمهدي استقالته، حصلت خلافات عميقة بين القادة الشيعة في أواخر 2019 على رئاسة الوزراء. وطالب المالكي وهادي العامري بها لأنفسهما. ولم يستطع الصدر التقدم بالطلب لنفسه، لأنه امتلك أقل من المطالبين الرئيسين بقيادة بغداد.

فقدم قصي السهل ومحمد توفيق علاوي وأسعد العيداني كمرشحين لرئاسة الوزراء، الا ان المالكي أدار الجبهة الرافضة لهؤلاء لرغبته بالعودة الى رئاسة الوزراء.

ووصلت الأمور الى طريق مسدود الا أن اغتيال القائدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس دفع الى اتفاق الجميع على حل موقت أتى بمصطفى الكاظمي لاجراء انتخابات نيابية مبكرة واخراج أميركا من العراق.

حصلت الانتخابات النيابية وانتصر التيار الصدري بـ73 مقعداً، بينما حصل المالكي على 34 مقعداً (أضاف اليها خمسة نواب جدد مع ادعاء غير مؤكد بأن عدد نوابه وصل الى 43) والعامري على 17 مقعداً.

ومنذ عام 2005، لم يجد العامري نفسه بهذا العدد القليل من المقاعد (17 مقعداً)، مما ساعده على العزوف عن المطالبة برئاسة الوزراء.

الا ان المالكي يريد الكرسي لنفسه أو يريد تعيين وزراء في الحكومة وكذلك تقاسم مركز نواب رئيس المجلس ورئيس الجمهورية، وهو يحاول تالياً تخريب أي اتفاق يعقد مع الصدر على غرار ما حصل في الأسابيع الأخيرة ولكن من خلف الستار، ما دفع بزعيم التيار الصدري الى قفل الباب امام المفاوضات مع «الاطار التنسيقي» بعد انتخاب رئيس المجلس النيابي، عدا العامري الذي يكن له الاحترام ويرغب بالعمل معه.

ووقع الصدر والعامري اتفاقاً قبل الانتخابات النيابية بالتضامن والتكاتف.

الا أن المالكي سبق الجميع باحراجهما واعلانه عن «الاطار التنسيقي» ليضم العامري الى صفوفه وكذلك جميع الأحزاب الشيعية الأخرى التي خسرت مقاعد كثيرة في الانتخابات الأخيرة.

لم يضع الصدر «فيتو» على المالكي بدايةً، الا أنه عاد ورفض التعامل معه، ومما لا شك فيه ان الرجلين لا يتفقان مع بعضهما البعض.

ويجد العامري نفسه مُحرجاً اليوم أمام السيد مقتدى وكذلك أمام المالكي الذي يبدو انه غير مهتم بمنع التصادم الشيعي - الشيعي واظهار الصدر كأنه هو «العدو» و«العميل الأميركي» وأنه هو والآخرون يحملون «لواء المقاومة».

هذه المقاربة الخاطئة للمالكي ستشجع على التصادم الشيعي - الشيعي خصوصاً ان الشارع منقسم بقوة ولا يمتلك القدرة على معرفة ما يجري خلف الستار من مفاوضات وتهديد يتعرض له الصدر وأعوانه.

ودفع رؤساء الأحزاب الشيعية والشارع المنقسم بالسيد مقتدى الى موقع لا يريده ولم يتبناه.

الا ان العراق يشتهر بمفاجأته في اللحظات الأخيرة التي لربما تحمل توافقات او أقله اتفاقاً على تنظيم الخلافات.

ليس من مصلحة ايران التي تملك نفوذاً في العراق أن تتفرج على ما يحدث من دون التدخل ايجاباً لدى حلفائها بالقبول بما يقبله العراق وما أنتجته الانتخابات لكي لا تعتبر أيضاً عدواً للتيار الصدري كما يتداوله أنصار السيد مقتدى أينما حلوا.

لم يعد الصدر اليوم كما كان عام 2004 عندما جابه أميركا وعلاوي، وكما كان عام 2008 عندما جابه أميركا والمالكي، يوم كان في الثلاثين من عمره وذي خبرة سياسية محدودة. لم يعد من السهل جرِّ التيار الصدري الى معركة داخلية كما حصل سابقاً خصوصاً ان زعيمه أثبت حنكة سياسية على الرغم من عدم وضوح سياسته الاستراتيجية.

الا أن المتربصون بالعراق يستطيعون احداث ثورة لا تنطفئ اذا بدأ مسلسل الاغتيالات ليطال قادة التيار الصدري، وبينهم مقتدى نفسه، ليصال الى اتهام الأحزاب الشيعية الأخرى بذلك. ليغرق العراق بـ«بحر من الدماء».

أقل من ثلاثة أسابيع تفصل انتخاب رئيس البرلمان محمد الحلبوسي عن انتخاب رئيس الجمهورية المقبل ومن بعدها خمسة عشر يوماً لاختيار رئيس الوزراء واتفاق الشيعة في ما بينهم. الا أن الصدر يمتلك الموقف الأقوى بعد أن فرض نفسه في المجلس النيابي. فهل تنضم الأحزاب الشيعية الى تحالف يجمعها مع الصدر أم تأخذ الأيام منحى آخر يذهب معه «الإطار التنسيقي» الى المعارضة او المقاطعة؟

لا احد من السياسيين يمتلك الجواب اليوم لأن العراق يحمل دائماً مفاجآت اللحظات الأخيرة.