إن طبيعة التكاليف الربانية تجعل من المسلم إنساناً مستقبلياً من الطراز الرفيع، فهو منذ سن التمييز، وحتى الممات يلاحق هدفاً واحداً، هو رضى الله - تعالى - وذلك بالسمع والطاعة للأوامر واجتناب النواهي، ومن خلال ضبط إيقاع حركته وفق متطلبات رضى الله - سبحانه -، وكان المأمول والمتوقع أن يشمل الحس المستقبلي لدى المسلم كل مناشط حياته ومواقفه وردود أفعاله، لكن الجهل والأمية وتأثيرات البيئة الخاملة والبليدة المتعبة، كل ذلك أدى إلى أن يعيش كثير من المسلمين في حدود يومه بسعادته وشقائه، دون أن يمد بصره إلى قادم الأيام، وأن يتهيأ إلى ما سيتعامل معه من أحداث.
إن الإنسان بصفة عامة والمسلم بصفة خاصة يحتاج إلى أن يمتلك الحسّ المستقبلي عن طريق تخطيط مناشطه وأعماله وعلاقاته المختلفة، أي أنه محتاج لجهد ذهني معرفي يبذله في تصور الأوضاع والإمكانات الحاضرة من أجل وضعها في برامج واضحة، بغية الوصول إلى هدف محدد، ومواجهة الظروف المستقبلية. والتخطيط بهذا المعنى عمل قصدي تحكمي يراد منه الاستفادة من معطيات المستقبل، وتطويعها لإرادة الإنسان على قدر المستطاع.
سنن الله النافذة في كل مجالات الحياة تعطينا مؤشرات لما يمكن أن يحدث، على الرغم من أن المستقبل غيب لا يعلمه إلا الله - جل وعلا - إلا أن حين يكون ما نخطط له متوقعاً في المدى القريب، توقعاتنا تكون أقرب إلى التحقق.
جهود الإنسان من غير خطة جيدة ستظل مبعثرة وضائعة، وكثيراً ما يصبح الكسل هو سيد الموقف، وتنخفض درجة الإنتاجية إلى أدنى مستوى لها.
إلا أن التجربة علمتنا أن حاضرنا يضيع وأوقاتنا تذهب هباءً، إذا لم نضغط عليها بأهداف مستقبلية. التخطيط يساعد الإنسان على الخروج من الظروف الصعبة التي يعيشها، لأن إمكانات معظم الناس تُهدر، وإرادتهم تصاب بالشلل نتيجة الأوضاع السيئة والقاهرة التي يحيون فيها.
وضع الخطة يساعدنا على البحث في تأمين الموارد المطلوبة لإنجاز الأهداف التي يراد الوصول إليها، وعندما نبحث في الموارد سوف يولّد وعياً لدينا بالإمكانات الكامنة، ويدفع إلى البحث عن طرق لاستغلالها، كما أن من شأن التخطيط يعلمنا كيف نجعل من الأعمال الصغيرة أعمالاً تراكمية تصب في خط واحد، وهذا شيء يجعلنا نشعر بالتقدم والتحسن، وهذا كله يشكل كسراً لقيود الظروف الصعبة، ويساعدنا على تجاوزها على نحو ما.
لا بد من التنويه لنقطة مهمة، لا ينبغي أن يُظن أن كل من خطط لحياته فاز وأفلح، وحقق ما يجب أن يحققه، نرى الكثيرين ممن يحسبون كل خطوة، لكنهم مع ذلك مصابون بقصر النظر وغارقون في الأوهام إلى آذانهم.
كما يجب أن يكون واضحاً للجميع، أن كل الأهداف التي سنحققها في هذه الدنيا مهما عظمت فإنها ستظل صغيرة، لأن الاستمتاع بها سيظل موقتاً ومحدوداً، فعلينا أن نتجاوز هذه العقبة بأن نجعل أهدافنا وطموحاتنا وتطلعاتنا الدنيوية مرتبطة على نحو ما بالفوز بكرامة الله - تعالى - في الآخرة، وذلك من خلال الاستعانة بالله على التقوى بما نقصده، ثم نفع العباد، وأن يكون نشاطنا كله في دائرة المباح، وفي إطار التوازن بين حاجاتنا اليومية، وحقوق الآخرين علينا، وبين ما نسعى إلى تحقيقه في المستقبل.
فلنقتنص فرصة سنة جديدة منحنا الله إياها بممارسة طبيعة عقيدتنا، وطبيعة التكاليف الربانية، بالتخطيط لمستقبل يجعلنا أفراداً من النمط الرفيع، وحتى لا نجد أنفسنا ضمن تأثير خطط الآخرين، فنستغل أسوأ استغلال، ويكون كثير من جهدنا مسخّراً لمصلحة غيرنا.
mona_alwohaib