من الخميس إلى الخميس

حكاية شجاع

22 ديسمبر 2021 09:30 م

الشجاعةُ صفة ٌعظيمةٌ، كم تغنّى بها الشعراء وسطّر التاريخ لها صفحاتٍ طوالاً. كان هذا في الماضي أما اليوم فالشجاعةُ غدت تهوراً وعادةً ما يدفعُ الشجاعُ ثمن شجاعتِه، لذا أصبحت هذه الصفة الإنسانية متوافرة في كتب التاريخ وفي أحلام اليقظة عندنا.

قبل أكثر من أربعين عاماً كان معنا في كلية الطب في جامعة الاسكندرية طبيب شجاع، ورغم أن شجاعته لم تضُره إلا أن الناس اعتبروا نجاته بشجاعته صدفة لا تتكرر، ولهذا تم إغلاق باب الشجاعة، ونحن اليوم نعيش على ذكراها وعلى طفرات منها نراها بين فترة وأخرى.

ما هي حكاية هذا الشجاع ؟ كان اسمه (إبراهيم الزعفراني) وكان شاباً متديناً، وقد حاول بالكلمة الحلوة تدليل العامل المشرف على المشرحة من أجل أن يسمحَ للطالبات باستخدام غرفة مهملة في قسم التشريح للصلاة، المشرف الذي هو عاملٌ كبيرٌ بالسن تأثر بإلحاح الزعفراني وقام بإعطائه مفتاح الغرفة والذي سرعان ما نظف الغرفة الصغيرة المهجورة ووضع فيها سجادة لتصبح مكاناً للصلاة.

مرت شهورعدة على ذلك الإنجاز، وفي يوم كان رئيس قسم التشريح وهو دكتور قبطي مشهور يمُر بالمشرحة فلاحظ دخول فتاة إلى تلك الغرفة، سأل المشرف الذي كان يرتجف خوفاً، أيامها كان الأستاذ في كلية الطب يعني السلطة المطلقة فما بالك برئيس القسم، حاول العامل أن يشرح له ودون أن يكمل دفاعه صرخ به الأستاذ قائلاً: هي ملك ابوك، وأمرَهُ بإغلاق الغرفة والتخّلُص من السجاد، طبعاً كان أمراً لازم التنفيذ. لم يعد للطالبات مكاناً للصلاة ووصل الخبر للطالب الزعفراني الذي كان طالباً محدود الدخل وفي السنة الثانية طب.

في المحاضرة الشهرية للأستاذ الكبير وأثناء إلقاء المحاضرة رفع الزعفراني يده طالباً الكلام، الأستاذ الذي تعجّب من الطلب صرخ به: في ايه، عاوز ايه؟ المفاجأة كانت في ما قاله الزعفراني، مفاجأة جعلت الصمت المطلق يسود المكان، قال الزعفراني للأستاذ بصوت قوي:

- أستاذ (مينا )، إنت مين اللي سمحلك تأفل (تغلق) الجامع! إذا كنت مستند على حيطه أنا حهدهالك (أي سوف أزيل ذلك الحائط)، كلمات لم تعرفها قط قاعة المحاضرات، الأستاذ الكبير تجمّدَ في مكانه ثم اندفع خارجاً من القاعة بينما كانت الأعين كلها شاخصة لذلك الطالب الواقف بشجاعة وكأنها تودعه لآخر مرة.

الموقف المرعب تداولته الألسن، وأصبح حديثَ المدينة ولسبب ما أصبح الحدثُ يحملُ خلافاً طائفياً ما أشعل الوضعَ هناك وتدخلت شخصيات كبيرة لإنهاء المشكلة، وجد الزعفراني نفسه في موقف بطولّي ومساندة من قادة المدينة ووجد الأستاذ المُرعب أن الموقف أصبح أكبر منه، في نهاية العام تم إحضار دكاترة مراقبين من مدينة أخرى للإشراف على امتحان الزعفراني بعيداً عن سلطة الأستاذ، هؤلاء المراقبون كانوا يسألون الزعفراني إذا كان محتاجاً حاجة، بالطبع لم يكن يحتاج معلومة فقد كان طالباً متفوقاً.

شجاعةٌ وجدت حماية الله، وهكذا نرى اليوم بعض تلك الطفرات ونسأل الله لها الحماية.