عزيز مشواط / المسكوت عنه في مباراة مصر والجزائر

1 يناير 1970 06:58 ص
لا يمكن للحرب الكروية التي اندلعت بين الجزائر ومصر على خلفية مباراة التصفيات النهائية لكأس العالم ان تمر دون ان تترك علامات استفهام واضحة عن دور كرة القدم في تجييش الجماهير وتعبئتها. لكن بعيداً عن هذه المناولات الصحافية العاطفية والسياسية، من هذا الجانب او ذاك، دعنا نطرح سؤالاً سوسيولوجيا يتجاوز البنية السطحية للظاهرة الى مستوى اكثر عمقاً، بهدف البحث عن البنيات الاشد خفاء بتعبير عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو.

الا يمكن ان نتحدث عن كرة القدم، كما فعل السوسيولوجي بورديو نفسه، باعتبارها مذهباً جديداً له دعاته وتعاليمه الجديدة؟ الا تشبه حروب كرة القدم، في درجة العنف والتعصب الذي تنتجه، الحروب العقائدية والدينية التي يطلب فيها المرء الشهادة في سبيل فكرة التفوق على الاعداء والخصوم(الكفار)؟

ان المحلل اليقظ والملاحظ الدقيق للسلوك الشعبي والجماهيري على هامش المباراة سيكتشف ان الجميع انخرط بشكل عفوي في انفعالات واحساسات متماثلة. فبين مثقف مشهور وصانع احذية جزائري اومصري، توجد ربما هوة عميقة من ناحية العلاقة الفكرية، ولكن الفرق بينهما صار منعدماً او ضئيلاً بشكل كبير في ما يخص المزاج العام والانفعالات التي اعقبت المباراة.

ان الانخراط الجزائري - المصري، الشعبي والرسمي، في لعبة شد الحبل وتبادل الاتهامات نتج بالاساس عن افق التوقع الذي رسمه الاعلام. لقد صارت مباراة كرة القدم هاجساً مصيرياً لشعبين، استطاعت مباراة لكرة القدم ان توحد جميع فئاتهما. يفيد هذا الانخراط ان اللعبة صارت فعلاً ظاهرة اجتماعية بمواصفاتها السوسيولوجية وبخصائصها كلها.

في العام 1982 كتب عالم الاثنولوجيا الفرنسي مارك اوجي في مقال معنون بـ «كرة القدم من التاريخ الاجتماعي الى الانثروبولوجيا الدينية» يقول: «تشكل كرة القدم فعلاً اجتماعياً شمولياً، انها تجمع كل شتات المجتمع وتتضمن ثنائية الممارسة والفرجة، وهي ايضاً ممارسة واسعة الانتشار، الامر الذي يجعل من وصفها ظاهرة اجتماعية امراً ممكناً».

لقد ساهمت جماهيرية كرة القدم، الناتجة عن جذب اللعبة لعدد متزايد من الجمهور بفعل بساطة قواعدها وعدم نخبويتها، في تعقيد المشكلة بين الجزائر ومصر. ان هذه الجماهيرية دفعت السياسيين، ومن دون تردد، الى الركوب على موجة العاطفة الشعبية لتحقيق مكاسب انية.

ان العنف المتبادل بين جماهير البلدين يجعلنا نقف على بعض الملاحظات التي طورها مارك اوجي، في هذا الصدد، اذ يعتبر ان ظاهرة كرة القدم صارت بالفعل ظاهرة اجتماعية شديدة التعقيد. انها حسب الكاتب نفسه شبيهة بالظواهر الدينية التي لا يمكن اختزالها الى عدد من الافكار والتمظهرات والتفسيرات البسيطة. انها تشكل بالنسبة إلى البعض افيونا جديداً للشعوب للتحريك والتجييش والتعبئة. غير انها بالنسبة إلى كاتبنا تتجاوز ذلك بكثير. انها تعبير عن علاقات اجتماعية ناتجة عن الطلب الاجتماعي المتزايد على الفرجة.

وبفعل هذه الحاجات الاجتماعية اتخذ الهوس صبغة جماعية تشابه في تمظهراتها افراد المجتمع. وانخرط الجزائريون والمصريون في ما يشبه هستيريا جماعية، فاصبحت الهوة ضئيلة جداً بين عامة الناس (الرأي الشائع) والمثقفين والكتاب والصحافيين، مع بعض الاستثناءات طبعاً.

لقد أوجد الاعلام في البلدين حالاً استهلاكية ابتلعها الجميع مع قهوته الصباحية، وهو يمسي ويصبح على آلة اعلامية تنفخ في جروح العزة والنصر والشجاعة كصفات تتميز بها الذات، في حين تتم ابلسة الاخر وتجريمه ودفعه الى هاوية اعتباره جحيماً. ولم تستطع «الاصوات المتعقلة» المنبعثة من هذا الطرف او ذاك ان تصمد امام قوة التدفق الاعلامي التهويلي. لم تستطع «النزعات العلمية» كلها ان تقف في وجه تسونامي الاستهلاك الاعلامي التحريضي، فصار ابتلاع الكليشيهات الجاهزة فطيراً يومياً لشعبين ينتميان الى مجال سياسي واقتصادي وثقافي متشابه.

لقد ابتلع الجميع منتوجاً اعلامياً، ضخم بشكل كبير صورة الشر في الاخر. لكن هذا الابتلاع صار غير قابل للكبح، لانه مدفوع بالخيبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كلها التي يعاني منها الشعبان. ان حالة الهياج الشديد التي اعقبت المباراة صارت غير قابلة للكبح، لانها مبنية على الحرمان. وهكذا صار التأهل الى المونديال نوعاً من الاستيهام الذي تم اعداده اعلاميا من خلال اختراق الحقل العاطفي الاجتماعي بشكل مباشر.

وهنا لعبت كرة القدم دوراً رمزياً في توحيد ما لا يوحد واقعياً. ففي المجتمعات التي تعاني تفاوتاً صارخاً بين المستويات المعيشية للساكنة، بين المهمشين المحرومين والممتلكين لوسائل الثراء، تشكل كرة القدم متنفساً اجتماعياً ونفسياً. ان سبب الفرجة التي تخلقها مباراة لكرة القدم ناتجة عن وجود فريقين متصارعين على رقعة الملعب، يتوافران على «الاسلحة» والوسائل نفسها. لكن كيف تحولت الفرجة المرجوة الى عنف بين المشجعين، ثم الى ازمة ديبلوماسية؟

ان درجة التعصب التي اعقبت المباراة تذكرنا بذلك السؤال السوسيولوجي الذي انتشر في الغرب خلال أعوام الثمانينات: هل تعتبر كرة القدم ديناً جديداً؟ لقد استمد هذا السؤال مشروعيته من موجة الطوائف الدينية التي انتشرت بشكل كبير مطلع ثمانينات القرن الماضي. لكن هذا التعميم يحتاج من الناحية الاجتماعية الى الكثير من التريث في حالة المجتمعات الاسلامية المتخمة بالطقوس الدينية. ان هذا التريث ناتج بالاساس عن مفهوم الطقس الديني. هل في كرة القدم نحن بازاء طقوس دينية؟ وهل اثر ذلك على درجة العنف التي سادت سواء كان رمزياً او مادياً على خلفية مباراة الجزائر ومصر؟

بالتاكيد تجتمع العديد من العوامل و الخصائص لتجعل من كرة القدم شبيهة بطقس ديني. يجتمع العديد من الناس في الفضاء الواحد نفسه، بعيداً عن الروتين اليومي، من اجل ممارسة تخضع لبعض القواعد والرموز والاشارات واناشيد حماسية ينخرط فيها الجميع من دون تفرقة بين الغني والفقير، الصغير والكبير، الذكر والانثى...

في حالة مباراة الجزائر ومصر اجتمعت حزمة من العوامل لتشكل برميل بارود مليئاً بالالغام. لقد اخترقت السياسة الحقل الاجتماعي وحاولت اللعب على الاشكال الاكثر قمعاً واحتقاناً، من خلال الاقتراب من المزاج العام للشعب، بل ان السياسي في البلدين أخضع المباراة لتفسير واحد هو: ضرورة اشباع الرغبات الوهمية في النصر. لكن هل يمكن ان نطمئن الى هذا التفسير المنبني على الاتهام الاعلامي والسياسي بالمسؤولية؟ الا تعتبر العودة الى ظاهرة كرة القدم كظاهرة اجتماعية خالصة، مقاربة يمكن ان تقدم بعض الاضاءة ؟

ان ظاهرة كرة القدم صارت بالفعل ظاهرة اجتماعية شديدة التعقيد. وليست تفاعلات مباراة الجزائر ومصر والمنحى الذي اتخذته سوى جبل الجليد الذي يخفي نزوعاً مستمراً نحو الاقصاء. لقد صارت فعلاً شبيهة بالظواهر الطقوسية، حين يتجاور المادي والرمزي، الذاتي والموضوعي، السياسي والاقتصادي، الوهم والحقيقة، الفرجة والمتعة والاستغلال الايديولوجي. صحيح قد تشكل بالنسبة إلى البعض افيوناً جديداً للشعوب للتحريك والتجييش والتعبئة. لكنها تبقى في نهاية المطاف تعبيراً عن حاجات اجتماعية خاضعة لقانون انتاج الظاهرة الاجتماعية بتعقيداتها كلها، وخاضعة لقانون العرض والطلب الاجتماعيين. واذا كانت في الغرب تخضع باستمرار للمساءلة العلمية، كغيرها من الظواهر الاجتماعية،فانها تظل خاضعة للتفسير العاطفي في المجتمعات الثالثية عموماً والعربية خصوصاً، مما يهدد في المستقبل بتحول فرجة كرة القدم الى مآس وكوارث قد تندلع على اثرها حروب طاحنة، تُضاف الى كوارث الامية والفقر والتخلف.





عزيز مشواط

كاتب وباحث مغربي، وهذا المقال يُنشر بالتعاون مع مشروع «منبر الحرية»

 www.minbaralhurriyya.org