مأساة بوتفليقة... الأقرب الى مأساة الجزائر

19 سبتمبر 2021 09:10 م

لم يكن عبدالعزيز بوتفليقة شخصيّة سياسية جزائريّة عاديّة. بل هو، بعد هواري بومدين مؤسس النظام الأمني - العسكري القائم منذ خريف العام 1965، ثاني أهمّ شخصيّة في تاريخ الجزائر الحديث منذ استقلاها في العام 1962.

يكفي أن مرضه في العام 2013 وتحوّله الى رئيس مقعد لا يستطيع حتّى الكلام، كشف عمق الأزمة التي يمرّ فيها النظام الجزائري... بل الجزائر نفسها.

أمضى بوتفليقة عشرين عاماً رئيساً للجمهوريّة في بلد ما زال يبحث منذ الاستقلال عن أدوار تتجاوز حدوده من أجل التغطيّة على أزماته الداخلية التي لن يستطيع الخروج منها يوماً في غياب تغيير جذري في تركيبة النظام.

لن يستطيع ذلك نظراً الى ان النظام الذي أسّسه بومدين كان، ولا يزال، نظاماً غير قابل للحياة على الرغم من ان بوتفليقة نجح في مرحلة معيّنة، من موقع وزير الخارجيّة، في تلميع صورته في العالم.

كان بوتفليقة طوال سنوات الوجه المضيء للجزائر، على الرغم من كلّ الأدوار السلبيّة التي لعبها، خصوصاً في ما يخصّ قضيّة الصحراء المغربيّة، وهي قضيّة مفتعلة تعكس في جانب منها أزمة النظام البومديني الذي لا يزال قائماً الى اليوم. قد يكون ذلك عائداً الى العقدة التي تملّكت بوتفليقة نظراً الى انّه ولد في المغرب وليس في مكان آخر.

توفّي بوتفليقة، الذي أبصر النور في مدينة وجده المغربية القريبة من الحدود الجزائرية ومن مدينة تلمسان التي أتت منها عائلته، عن 84 عاما. عرف بوتفليقة حلو الحياة ومرّها، بما في ذلك النفي والملاحقة القضائيّة.

أمضى سنوات عدّة بين جنيف وباريس وأبوظبي بعد رفع قضايا قانونية ضدّه وصدور أحكام في حقّه في عهد الشاذلي بن جديد الذي امتد من 1979 الى 1992.

عاش بوتفليقة حياة سياسيّة طويلة في ظلّ بومدين الذي جعل منه وزير خارجيته. في الواقع من عيّن بوتفليقة وزيرا للخارجية في العام 1963، كان احمد بن بلّه، اول رئيس للجزائر بعد الاستقلال.

كانت إقالة بن بله لبوتفليقة بين الأسباب المعلنة للانقلاب الذي نفّذه بومدين في نوفمبر 1965 ليصبح رئيساً ومهيمناً على كلّ مفاصل السلطة في الجزائر، عبر المؤسّسة العسكريّة وأجهزتها الامنيّة... والدولارات التي مصدرها النفط والغاز.

استخدمت هذه الدولارات في خدمة الديبلوماسيّة الجزائرية والترويج لشعارات من النوع المضحك المبكي عن التحرّر من الاستعمار وحقّ تقرير المصير للشعوب.

حدث ذلك كلّه في وقت، كانت الجزائر تعيش في ظلّ نظام ستاليني (نسبة الى ستالين) والانتقال من فشل الى آخر في كلّ مجال من المجالات، بدءا بالزراعة والصناعة وانتهاء بالتعليم والتعريب.

لم يكتشف بوتفليقة الذي عاش في عالم خاص به، عالم وزارة الخارجيّة والدور الجزائري في المنطقة والعالم، طبيعة النظام الجزائري الّا بعد فوات الأوان.

كان يعتبر نفسه بعد وفاة بومدين في أواخر العام 1978، الخليفة الشرعي للرئيس الراحل.

فوجئ بانّ الجيش وأجهزته هو من يقرّر من سيكون الرئيس المقبل. اختار الجيش الشاذلي بن جديد ليخلف بومدين بصفة كونه الاقدم في حمل رتبة عقيد بين الضباط.

كان على بوتفليقة الانتظار سنوات طويلة قبل إعادة الاعتبار إليه. رفض في البداية شروط المؤسسة العسكريّة التي عرضت عليه الرئاسة في العام 1995.

لم يكن بعد مستعداً لصفقة مع العسكر والأجهزة الأمنيّة، لكنّه عاد وغيّر رأيه في أواخر العام 1998 كي ينتخب رئيساً في ابريل 1999 خلفا لليمين زروال الذي فضّل الاستقالة على البقاء رئيساً.

أمضى بوتفليقة عشرين عاماً رئيساً. من أهمّ الإيجابيات التي تميّز بها عهده الطويل تحقيق المصالحة الوطنيّة وذلك بعد عشر سنوات من الحروب الداخلّيّة التي بدأت في أكتوبر العام 1988 لدى انتفاض الجزائريين على حكم بن جديد.

أخذت الأحداث بعدا آخر أاكثر خطورة بعد الانقلاب العسكري الذي أزاح بن جديد عن الرئاسة مطلع العام 1992 اثر تجاوبه مع فوز الإسلاميين في الانتخابات العامة.

تكمن مأساة عهد بوتفليقة، وهي مأساة جزائرية بامتياز، في أنّه بقي رئيساً طوال ست سنوات، بين 2013 و2019 على الرغم من عجزه عن ممارسة مهمّاته إثر إصابته بجلطة في الدماغ.

وجد من يشغل موقع الرئيس مكانه. في الواقع وجدت مجموعة، على رأسها شقيقه سعيد، تمارس دور رئيس الجمهوريّة بغطاء وفّره الجيش ممثلاً بالراحل أحمد قايد صالح.

عندما وجد الجيش أن ورقة بوتفليقة لم تعد صالحة، أجبره على الاستقالة في ابريل 2019 ومنعه من الترشّح لولاية خامسة مستوعبا بذلك الغضب الشعبي.

أتت المؤسسة العسكرية برئيس مطيع هو عبدالمجيد تبّون لا يمتلك أيّ شرعيّة من أيّ نوع ليكون واجهة جديدة لها.

لعب الجنرال المتقاعد العربي بلخير في العام 1998 دوراً كبيراً في إيجاد تسويّة بين بوتفليقة والمؤسسة العسكرية مهدت لانتخاب الاوّل رئيساً في 1999 بعد استبعاد مسبق لمنافسيه.

كان في مقدّم هؤلاء احمد طالب الإبراهيمي وحسين آيت احمد ومولود حمروش. ما ساعد بوتفليقة في السنوات الأولى من عهده ارتفاع سعر برميل النفط.

مكن ذلك الجزائر من تسديد ديونها وبناء احتياط من العملة الصعبة. لكن امرين لم يتغيّرا هما الفشل المستمرّ في بناء قاعدة اقتصادية قويّة مستقلّة عن النفط والغاز من جهة والتمسّك بوهم القوّة الإقليميّة من جهة أخرى.

هذا الامران اللذان لم يتغيّرا، الى الآن، يمثلان ما تؤمن به المؤسسة العسكرية الحاكمة في الجزائر التي استفادت من بوتفليقة كي تعيد تأهيل نفسها. قبض بوتفليقة ثمن الغطاء الذي وفّره للمؤسسة العسكرية التي كانت في حاجة ماسة اليه في مرحلة معيّنة، لكنه سقط في امتحان الانسحاب من السلطة عندما تحوّل إلى رجل عاجز.

انتهى نهاية لا يستحقها بعدما صار أسيراً لمحيطين به، بل رهينة لديهم. على رأس هؤلاء شقيقه سعيد، وكان بين الذين اعتقدوا أن بوتفليقة شخص لا يمكن الاستغناء عنه حتّى لو كان مقعدا.

لم يدركوا ان مأساة هذا الرجل أقرب ما تكون الى مأساة الجزائر التي يرفض النظام فيها الاعتراف بأنّه في أزمة عميقة لا يخرجه منها الهرب إلى خارج الحدود الجزائرية.