من الخميس إلى الخميس

طبعاً... لا

1 سبتمبر 2021 10:00 م

في أيامنا القديمة كان الرجلُ يَهْجُرُ آخرَ لأنه لم يسانده في موقفه... كان الشاب إذا تأخر عن زيارة والديه شهراً، يُعتبر عاصياً ويُلام بشدّة.

كانت الأخلاقُ عظيمة والمخالفاتُ صغيرة والتاريخ القديم يخبرنا عن شعراء امتهنوا الهِجاء من أجل تخويف الناس وليس بسبب نقص أخلاقِهم.

الشاعر الحطيئة المتوفى عام 59 للهجرة، هو واحد من كبار الشعراء الهجائيين حتى أنه هجا أباه وأمه.

قال يهجو أباه كمثال على سوءِ أدبه:

فنعم الشيخ أنت لدى المخازي

وبئس الشيخ أنت لدى الفعال

ونال أذاه عمه وخاله وزوجته حتى وصل لنفسه، فقال يهجوها:

أرى وجها شوه الله خلقته

فقبح من وجه وقبح حامله

فهو لم يفصل في نواقصهم بل فقط تكفل بهجائهم، واستمرت مسيرة الحطيئة بالهجاء من اجل الهجاء... ومن أكبر زلاته هجاؤه للصحابي الكريم الزبرقان بن بدر بن امرئ القيس في قوله:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وحين اشتكى الزبرقان للخليفة الفاروق - رضي الله عنه - قام الخليفة عمر، بما عرف عنه من عدل، بسؤال الشاعر حسان بن ثابت عن ما زعمه الزبرقان، فقال حسان للفاروق: ما هجاه يا أمير المؤمنين بل سلح عليه، أي رمى عليه الفضلات كتشبيه لقوة الهجاء، رغم أن المهجو بحقه كان رجلاً عظيماً. ولما جاء زمن أبو الطيب المتنبي، وصف الشاعر الكبير رجلاً قام بالإساءة إليه، فقال له:

صغرت عن المديح فقلت أهجو

كأنك ما صغرت عن الهجاء

فالمتنبي هنا لم يسلح على الرجل فحسب بل ألغاه من الوجود وحرمه حتى من الإهانة. وأيضاً لم يُفصح المتنبي عن صفات الرجل وكأن الهجاء قديماً كان باباً للأدب يبحث عن نواقص لا يجدها إلا في خيال محبي الهجاء.

إنه سؤال مُستحق إذاً... لو أن الحطيئة أو المتنبي عاشا بيننا اليوم، فهل سيحتاجان إلى الخيال لخلق النواقص في الرجال؟ الجواب يحمله عنوان المقال، «طبعاً لا»، فمن هم أصغرُ من الهجاء اليوم كثيرون، وكثيرون جداً، ومن هم اليوم يستحقون كل حرف من حروف الهجاء لا يُعدّون، فقد رأيت في مسيرتي الطبية شباباً لا يريدون أن يأخذوا آباءهم من المستشفى رغم بكاء الأب الذي لا يحتاج البقاءَ هناك.

ورأيت موظفين يجتمعون لإيذاء شرفاء لأنهم لم يرضوا بسرقاتهم، وعلمت عن رشاوى تُعطى لمناقصات وشراء أصوات واستحلاب وطن كامل لصالح مجموعة واحدة.

اليوم أفضل أبواب الإبداع الشعري، سيكون في درب الهجاء، فالمادة متوافرة حولنا وبغزارة، وما على الشعراء إلا أن يُبدِعوا بما لم يراه الحطيئة في زمنه.