من الخميس إلى الخميس

الصورة أكثر وضوحاً

28 يوليو 2021 10:00 م

الرسّامون عادة لا يقتربون كثيراً من اللوحات، اللوحة ستكون مفهومة أكثر وأنت تراها عن بُعد، الصراعات التي تحيطنا من كل جانب هي لوحات متعدّدة الألوان ويتداخل بعضها ببعض، أحياناً

لا بد أن نبتعد عن حلبة الصراعات التي تحيط بنا من كل جانب، نبتعد حتى نرى الصورة أكثر وضوحاً.

خلافات سياسية وفكرية جعلتنا - شئنا أم أبينا - في دوامة أفكار ومعتقدات تعصف بسكوننا الداخلي، وتفرض علينا الحياة فوق سطح التيار، إننا نعاني من تموجات السيل واضطراب أمواجه.

كل إنسان اليوم في عالمنا الواسع يُعاني، فقد تحولت الدنيا بما رحُبَت الى بيت كبير، بيت فيه غرف متلاصقة من دون حوائط ولا حتى ستائر، ترى وتسمع كل ما يدور بين الشعوب حال وقوعها، لم يكتف الإنسان بمصائبه وقضاياه وخلافاته، لا لم يكتف بذلك، بل أصبح يرى ويسمع ويتفاعل مع كل قضايا العالم، ما أوسع العالم وما أكثر قضاياه! كيف يتحمل الإنسان كل ذلك؟

نحن بحاجة إلى دليل يرشدنا لنعبر تلك الأمواج، التي تحيط بنا من كل جانب، بحاجة إلى توجيهات تجعلنا نرى الصورة عن بعد، نفهم خطوطها من دون أن تتداخل ألوانها وتربكنا.

هذا الدليل المرشد ستجده في كتاب الله تعالى، ولا عجب في ذلك، فالقرآن معجزة الخالق في كل زمان فيه ما نحتاج إليه دائماً. في سورة (الرعد) ما يساعدنا على فهم الصورة عن بعد ويكشف عنا غطاءنا ويجعلنا نعرف الأصل، ونبتعد عن الزبد، يقول ربنا عز وجل: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) سورة الرعد آية 17.

إنها علامات لطريقنا حتى لا نخلط بين الماء والسراب، أو بين الأصل والصورة، المعيار واضح لا لبسَ فيه، إنه (منفعة الناس).

هذا المعيار هو الماء النافع وهو الحلية الثمينة، هي إذاً حقيقة الحياة، ما ينفع الناس يستحق أن نهتم بأمره فهو الأصل وهو الماء النافع، أما ما يضرّ الناس من فِتن وخلافات وصراعات كأمواج الليل، فليس أكثر من زبد لا منفعة وراءه، أو هو شوائب يضيع عمر الكثير من الناس وهم مشغولون فيها.

الحل إذا أمامنا، علينا أن نلبس عقولنا مصفاة سورة الرعد، لا نهتم إلا بالأصل ونتغاضى عن الصورة، نجتهد في الوصول الى الماء غير مبالين بانعكاسات السراب.

الشوائب اليوم مشغول بها جل شعوب العالم، يطفئون نار مشاعر الغضب، يتصارعون ويتقاتلون حتى إذا هدأت العواصف واقترب الأجل منهم اكتشفوا أنهم أضاعوا أعمارهم في سراب، وأنهم انشغلوا بالزبد الرابي فوق سطح الماء عن رؤية الماء الصافي والخير في الأعماق.

الوقت مضى بهم ولم ينالوا نعمة سورة الرعد.

إنها خسارة عظيمة إن لم نميّز بين الحقيقة والوهم، أو بين الماء والسراب.

فلنبتعد قليلاً عن الصورة لنراها أكثر وضوحاً.