غداة تتويج تشلسي الإنكليزي بلقب دوري أبطال أوروبا في كرة القدم على حساب مواطنه مانشستر سيتي، طُرح سؤال بَدَهيّ حول السرّ في نجاح المدربين الألمان البيّن على المستوى القاري، وفي هذه البطولة المرموقة بالتحديد، خصوصاً وأن المواسم الثلاثة الماضية شهدت تتويج فرق يقودها أحد هؤلاء، من على خط الملعب.
نتحدث هنا عن يورغن كلوب مع ليفربول الإنكليزي في 2019، هانز - ديتر فليك مع بايرن ميونيخ الألماني في 2020، وتوماس توخيل مع تشلسي في 2021، مع العلم أن هذه الفرق لم تكن، في فترة من فترات الموسم الذي شهد تتويجها، في طليعة الأندية المؤهلة لولوج النقطة الأعلى من منصة اللقب القاري الأسمى.
وكالة الأنباء الصينية (شينخوا) تساءلت عمّا إذا كانت هذه السيطرة الألمانية تمثل إيذاناً بنهاية حقبة مدربين صُنفوا من النخبة في السنوات الأخيرة، ونعني بهم الإسباني جوسيب غوارديولا بطل أوروبا في 2009 و2011 مع برشلونة، البرتغالي جوزيه مورينيو (2004 مع بورتو و2010 مع إنتر ميلان الإيطالي)، الإيطالي كارلو أنشيلوتي (2003 و2007 مع ميلان و2014 مع ريال مدريد الإسباني)، والفرنسي زين الدين زيدان (2016 و2017 و2018 مع ريال مدريد).
نجاح بعد فشل بالنسبة إلى توخيل الذي حقق أول ألقابه الدولية بعد سنة على فشله في ذلك مع باريس سان جرمان الفرنسي عندما بلغ نهائي الـ«تشامبيونز ليغ» وسقط أمام بايرن ميونيخ، فقد بات أول مدرب يخوض المباراة النهائية مع فريقين مختلفين في غضون موسمين، ونجح المدرب السابق لكل من ماينتس وبوروسيا دورتموند الألمانيين في دخول نادي «المدربين: صُنع في ألمانيا» بعد 123 يوماً فقط على رأس الإدارة الفنية لتشلسي.
من جانبه، نجح كلوب في قيادة ليفربول إلى التتويج بلقب بطل الدوري المحلي للمرة الأولى بعد انتظار دام 30 عاماً في 2020، عقب موسم واحد من انتزاع اللقب السادس في «الأبطال».
أما فليك، فقد تمكّن، كـ«مدرب طوارئ» في الموسم 2019-2020، وفي غضون أشهر، من تحويل بايرن ميونيخ من «جثة هامدة» إلى «بعبع» لأندية «القارة العجوز» كافة، متوَّجاً بالكأس الأوروبية المرموقة بعد مشوار لم يعرف سوى الانتصارات، قبل تحقيق «السداسية التاريخية» مقتفياً أثر غوارديولا الذي حققها في 2009 مع برشلونة.
ويبدو بأن فليك كوفئ على عطاءاته حيث سيتولى قيادة منتخب ألمانيا خلفاً ليواكيم لوف بعد «يورو 2020»، علماً أنه كان مساعداً للأخير لسنوات شهدت تتويج «ناسيونال مانشافت» بكأس العالم 2014 في البرازيل.
واللافت أن من تولى الدفة في «بايرن»، أعرق الأندية الألمانية والأوروبية، سيكون يوليان ناغلسمان، ابن الـ33 ربيعاً، ما يعني بأن مسألة تفريخ المدربين في ألمانيا باتت عملية «طبيعية».
ما السر إذاً في تألق مدربين مثل كلوب، فليك، توخيل، ناغلسمان، وحتى ماركو روزه؟
1 - الـ «كاريزما» هي المفتاح إلى جانب تبنّي تقنيات التحليل المتطورة وصقل المهارات في الدوري الألماني، هناك أمر آخر مُشترك بين كل هؤلاء المدربين: الـ«كاريزما» أي الجاذبية المقنعة أو السحر.
المدربون حضروا جميعاً، في فترة من مسيرتهم، «دورة تعليم كرة القدم» التي ينظّمها الاتحاد المحلي للعبة، والتي اكتسبت سمعة طيبة باعتبارها واحدة من أكثر الدورات شهرة من نوعها في أوروبا.
أين يتلقى المدربون تلك الدورة؟ في معهد يقع في مدينة هينيف (بالقرب من كولن)، ويستقبل 25 مدرباً فقط سنوياً يجري اختيارهم من بين أكثر من 100 متقدم.
ومن المقرر أن يُنقل مكان إقامة الدورة، في أواخر 2021، إلى منشأة جديدة قائمة على أحدث طراز في فرانكفورت، بيد أنها ستستقبل فقط 20 متقدماً كل عام، الأمر الذي يجعلها أكثر حصرية.
لا شك في أن بناء «الشخصية الجذابة» يُعد مدماكاً أساسياً في هذه الدورة التي يعتبر ناغلسمان وروزه المنتقل حديثاً من بوروسيا مونشنغلادباخ إلى بوروسيا دورتموند، بين خرّيجيها الجدد.
يقول دانيال نيدزكوفسكي (44 عاما) الذي يقود الدورة منذ 2018، بأن تحديد المدربين الذين يتمتعون بالـ«كاريزما» ليس بالأمر السهل دائماً، ويضيف متحدثاً إلى موقع DW: «نقضي وقتاً طويلاً في تقييم هيكلية كرة القدم لدى كل مدرب محتمل، مهاراته التحليلية، وقدرته على التخطيط لخطة تدريبية وتنفيذها»، ويتابع: «لكننا أيضاً ننظر عن كثب إلى شخصياتهم وما إذا كانت لديهم تلك الكاريزما.
هل تنظر إلى المدربين وتؤمن بما يقولونه وتثق به؟ هذا الأمر يتعلق بكيفية عرضهم لأنفسهم.
من المهم جداً أن يكونوا قادرين على إقناع اللاعبين بأساليبهم.
المشكلة بالنسبة لنا أن الكاريزما تعتبر أمراً ذاتياً للغاية، لا يمكننا زرعه في المدرب».
2 - الانفتاح في حالة «الشاب» ناغلسمان، لم يكن للشخصية وحدها الفضل في ما وصل إليه، بل أن إيمانه بالتكنولوجيا لعب دوراً كبيراً في مشواره الناجح، حتى بات «جدار الفيديو» الخاص به عندما درّب هوفنهايم مُعتمداً كأداة تحليلية في العديد من الأندية في ألمانيا، أضف إلى كل ذلك نهجه التعاوني وقدرته على انتقاد أساليبه الخاصة.
يقول نيدزكوفسكي، الذي عمل كمساعد لمدرب باير ليفركوزن بين 2013 و2016: «بقدر ما أستطيع أن أقول، يوليان ناغلسمان حريص دائماً على العثور على أيّ شيء يمكن أن يساعده في أن يصبح مدرباً أفضل.
هذا جزء من السبب الذي جعله يحقق هذا التقدم المذهل: هو منفتح جداً على التفكير الذاتي ومدخلات وآراء الآخرين.
تعتبر العقلية المتفتحة مفتاح التطور. هذا لا يعني أن المدربين الأكبر سناً ليسوا فضوليين ولا يبحثون عن المعرفة، لكن هذا العامل هو السبب الجوهري في صعود عدد من مدربي جيل الشباب إلى القمة بهذه السرعة».
وفي دوريّ شبابيّ مثل الدوري الألماني، تعتبر قدرة المدرب على التواصل مع اللاعبين الشباب ذات أهمية أساسية، ليس فقط مع الفريق الأول بل في أكاديمية النادي (لكل نادٍ في ألمانيا أكاديمية تُعنى باللاعبين صغار السن). إنها خاصية يتشاركها كل هؤلاء المدربين.
يضيف نيدزكوفسكي: «الدوري الألماني بطولة يحصل فيها الكثير من الشباب على الخبرة من خوض المباريات.
من المهم جداً أن يدرك المدربون في ألمانيا كيفية التعامل مع هذا الجيل من اللاعبين الذين يعتبر الكثيرون منهم مجرد مراهقين.
أحياناً، ولا نقول دائماً، تكون العملية أسهل بالنسبة إلى مدرب قادم بنفسه من فرق المراحل السنيّة حيث نشط كلاعب».
3 - تلاميذ كلوب ورانغنيك يُعتبر كلوب (53 عاماً) من الجيل الأكبر سناً. يمكن رؤية تأثيره وتأثير «الداهية» رالف رانغنيك، الذي عمل عن كثب مع ناغلسمان وروزه، بوضوح في أساليب وشخصية وفلسفة المدربين الأصغر سناً.
ولمَنْ لا يعرف رانغنيك، فهو الرجل الذي خرّج جيلاً جديداً من المدربين الألمان الذين يعتبرونه معلمهم، مدربين يؤمنون بفلسفته القائمة على التحوّلات السريعة التي استمدها من ولعه الشديد بالكرة الإنكليزية في شبابه، مدربين يطبقون قواعده التكتيكية بحذافيرها في الأندية المختلفة، إذ يسترجعون الكرة خلال 8 ثوانٍ من فقدانها ويسجلون أغلب أهدافهم بعد 10 ثوانٍ من استرجاعها.
حتى أن كلوب يرى في رانغنيك الرجل الثاني تأثيراً في مسيرته بعد فولفغانغ فرانك.
يقول الكاتب الألماني المتخصص في كرة القدم، رافائيل هونيغشتاين: «أعاد كلوب ورانغنيك تحديد كيفية وجوب أن تكون عليه كرة القدم تقريباً، وإذا لم تكن مستعداً للتدريب بهذه الطريقة، فإن معظم الأندية في ألمانيا لن تهتم بك».
ويبدو بأن أفضل الأعمال في الكرة الألمانية يجري القيام بها في الناديين المملوكين من «ريد بول»: لايبزيغ (ألمانيا) وسالزبورغ (النمسا)، حيث جرى جمع بعضٍ من ألمع العقول في مجال التدريب، وبالتالي، لم يعُد مفاجئاً أن يمر معظم كبار المدربين في البلاد من هناك.
يضيف هونيغشتاين: «تعمل ريد بول مع أناس رائعين يفهمون جميعاً كرة القدم.
إذا كنت ناجحاً في مثل هذه البيئة، فهذا يهيئك للنجاح في أيّ مكان آخر تقريباً.
إنها مثل المدرسة النهائية لكرة القدم الألمانية، جامعة أوكسفورد أو جامعة كامبريدج للتدريب.
هناك تجد ثقافة التميّز».
4 - عامِل فليك المدرب الألماني الأكثر نجاحاً في 2020 كان، بلا شك، فليك.
أنهى الموسم بعدد ألقاب يفوق عدد الهزائم في المباريات.
لم يتوقع أحد له كل هذا النجاح، لذا يمكن القول إنه خرج، بالتأكيد، من الظل.
مع استشعار بايرن ميونيخ بأن لا أمل من تحقيق تحسن في عهد المدرب السابق الكرواتي نيكو كوفاتش، جرى تعيين مساعده فليك كمدرب موقت، فنجح، على الفور، في التواصل مع عناصر الفريق، وبعضهم ممَنْ لم يحصل على وقت كافٍ للعب بشكل منتظم تحت قيادة سلفه.
لم يمر العمل الفني لفليك عندما كان مساعداً لمدرب المنتخب دون أن يلاحظه أحد، لكن قدرته على الفوز باستمرار وبأسلوب لم يسبق له مثيل في بايرن ميونيخ، منذ عهد غوارديولا، فاجأ الجميع.
يقول هونيغشتاين: «كان فليك يحمل صورة مساعد المدرب البعيد عن الأضواء، لدرجة أن الناس افترضوا أنه لا يمتلك الشخصية اللازمة لتحقيق النجاح».
ويتابع: «نحب في العادة أن نرى في المدربين هؤلاء الأشخاص الذين يعتبرون أكبر من سنهم.
لكن فليك لم يكن بتاتاً من هذا النوع».
على عكس كلوب، قد لا يملأ فليك غرفة تبديل الملابس، بشخصيته القوية النافرة.
لكن إلى جانب قدراته الفنية كمدرب، سمحت له «شخصيته الساحرة» في بناء علاقة وطيدة مع لاعبيه، وفي غضون أشهر، حوّل بايرن ميونيخ، بهدوء، إلى أكثر الفرق الأوروبية إثارة ونجاحاً.
قد يكون هذا دليلاً على أن الـ«كاريزما» يمكن أن تأتي بأشكال مختلفة.