رواق الفكر

دموع صاحبة الجلالة

6 أبريل 2021 10:00 م

وجدت في أرشيف الذكريات الإعلامية، مذكّرات عطرة وأخرى نتنة، ومن ذلك أولئك الذين امتهنوا الصحافة لكسب العيش، ولو على حساب أمانتهم في النقل والرواية ونشر الأخبار.

وبعض تلك المواقف الخربة... آذت الناس وشوّهت الحقيقة ومكّنت الباطل وجعلت البعض في حيرة.

وهؤلاء السفلة... كالخفافيش... يجتمعون في الظلام، ويهربون من النور الحق المبين، ويمتطون صهوة المصلحة ويسعون إلى رضا السادة لكسب المال والجاه والشهرة... «ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه».

والحقيقة أن العمل الصحافي بكل وظائفه، قد يطرأ عليه - كغيره من المهن الأخرى - الفساد.

في تاريخ الدراما العربية أوائل التسعينات كان هناك مسلسل بعنوان دموع صاحبة الجلالة يعيش (محفوظ عجب) - الصحافي البسيط -سلسلة من طرق التزلّف والتسلّق من أجل أن يدخل في أحد أهم الصحف حينها كاتباً ومحرّراً... ثم مشرفاً عاماً في الجريدة... إلى أن يصبح رئيساً للتحرير ! كان ذلك في حقبة الأربعينات، حيث الملكية تحكم المحروسة.

ويبدأ مشواره بأخذ الرشاوى والتواصل مع ذوي النفوذ والتجار والنواب والوزراء والأحزاب السياسية، والنساء من راقصات وممثلات، ليحصل على الخبطات الصحافيّة والمعلومات وينال رضا رئيس التحرير... كان يسرّب أخباراً من البلاط إلى المعارضة والعكس ! متلوّن حسب المصلحة الخاصة، تارة يقف مع حقوق الشعب المهضومة وجراحه وآلامه، من ظلم وارتفاع أسعار واعتقال وتكميم للأفواه، ثم يقف مع التجّار أو البلاط أو المتنفذين تارةً أخرى!

ونسي أن للقلم كلمة وقسماً وأمانة، «فمن نكث فإنما ينكث على نفسه»، وما علم أنه يلعب بالنار... وسيخلّد التاريخ خيانته للقلم، وسيخرج له ولمن بعده من ينبش وسخه ولو بعد حين... تجده يرفع راية العدل والحرّية والمساواة عندما يكون بين الأحزاب الديموقراطية واليسارية، ثم ينادي بالبطش والتنكيل بها استحقاقاً للأمن واستقرار المجتمع، حين يكون بين أحضان السلطة وذوي النفوذ.

ينجح (محفوظ) وينال الحظوة والمكافآت... فيكافأ بالسفر إلى سورية لحضور اجتماع الملوك والرؤساء العرب، ثم في عام 48 لتغطية حرب فلسطين... وهناك يتعرّف على بعض الضباط، في ما بعد منهم من قاد ثورة يوليو!

وهكذا يظهر النجم اللامع والصحافي الموهوب، ويسطع في سماء الصحافة العربية... العجيب أن مقالاته شعبية جماهيرية مع (الغلابة) لكن مانشيتات الجريدة العريضة ضد ذلك، فهي مع ذوي النفوذ والإقطاع وتكريس الملكيات الخاصة!

ينطلق الصحافي الموهوب لتفتح أمامه وله أبواب البلاط ومجلس النواب، وعلاقات مهمة مع التجار وكبار الشركات والقلم السياسي... فيجمع من الأموال والمكافآت ما أغناه بعد أن كان معدماً فقيراً، لا يملك سوى القلم ودموعه السوداء!

ثم تأتي الثورة فيمتطيها... ويصفّق لها... ويبارك مبادئها، ويحضر اجتماعاتهم فيبدي رأيه... ليقف ضد الملكيات الزراعية وإعادة توزيع الثروة ومحاسبة ذوي النفوذ والتجار، وهو الذي كان صبيّاً لهم قبل ذلك... وتدور الأيام بعد أن أخذت الأرض زينتها... لينكشف سحره وتظهر ألاعيبه بالمستندات... فيحاسب ويحاكم... ويصرخ ببراءته وأنه مع الثورة ضد الملكية، ولا مجيب، «وقالوا ربنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل»...

ينكشف حين تجتمع خيوط المتناقضات... وتنسج بيد خصومه وما أكثرهم... فتتضح الصورة وتسقط الأقنعة ويقع في شر أعماله وإعلامه! حين تنطق عدالة السماء ويأذن الحق بها...

***

إن الحيرة تنتاب الشعوب «الغلبانة» بسبب إثارة الغبار على الأحداث وخلط الأوراق من قبل هؤلاء المتكسّبين، والراقصين على جراح الشعوب.

فلا يعرف بعض الناس أين الحقيقة... تنتابنا الحيرة، وتعلو أبصارنا الغشاوة، حين يكون الإعلام بيد هؤلاء المتكسّبين وتكون منابر الوعي والتوجيه والإرشاد تحت سطوتهم... حين يسوق الأفكار وينقل الأخبار ويحلّل الأحداث كل أفاك أثيم... ترى كم محفوظ عجب عندنا... الذين يباركون الباطل... ويصفّقون له! الذين يتزلّفون لذوي النفوذ من أجل توقيعات وتعيينات وتضبيطات!

لدينا عشرات من أمثال محفوظ عجب في الصحافة والسياسة والتجارة والدين وغيرها، من لا همّ لهم سوى رضا السادة وجمع المال والبحث عن الأضواء.

«من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون.

أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون».