الراعي ومعركة لبنان

28 فبراير 2021 10:00 م

يمكن تلخيص كلمة بشارة الراعي البطريرك الماروني في لبنان، بأنّه قال كلّ ما يجب قوله عن «حزب الله» وما يمثّله الحزب بصفة كونه حالة «انقلابية».

قال ذلك كلّه، في حضور مسيحيين وشيعة وسنّة ودروز ولكن من دون تسمية الحزب مكتفياً بالإشارة إلى أن ليس في استطاعة دولتين العيش في دولة واحدة.

كشفت كلمة الراعي في الوقت ذاته وجود مقاومة لبنانية حقيقية لمحاولة الحزب، ومن خلفه إيران، تغيير طبيعة لبنان وموقعه العربي والإقليمي وتغيير طبيعة مجتمعه المنفتح.

أثبت البطريرك الماروني عبر كلمته التي ألقاها، في حضور عشرات آلاف اللبنانيين الذين تجمعوا في ساحة المقرّ البطريركي في بكركي، انّ رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل، رئيس التيّار الوطني الحر، معزولان عن محيطهما المسيحي ومعزولان عن الواقع اللبناني وعمّا يدور في المنطقة والعالم... وأنّهما ليسا سوى تابع لـ«حزب الله».

لا يؤكد ذلك غياب التيّار العوني عن التجمع الذي شهدته بكركي فحسب، بل يؤكّده أنّه لم يصدر أيضاً عن عون وباسيل أيّ نفي لقول الوزير السابق بيار رفّول بالصوت والصورة عن أنّ«رئيس الجمهورية والتيّار الوطني الحرّ، هما في جبهة المقاومة والممانعة»، أي في المحور الإيراني.

ليس بيار رفّول شخصاً عادياً في الدائرة القريبة من رئيس الجمهورية وصهره، بل هو مبعوث عون القديم - الجديد والدائم الى دمشق...

كانت كلمة البطريرك، بغض النظر عمّا اذا كانت بالتنسيق مع الفاتيكان أم لا كلمة في غاية الأهمّية. تعبّر الكلمة عن وجود عصب لبناني يرفض الهيمنة الإيرانية.

الاهمّ من ذلك كلّه أن الراعي قال كلاماً كبيراً، إن في شأن «الحياد النشط» للبنان أو في شأن المؤتمر الدولي الواجب انعقاده برعاية الأمم المتحدة من أجل إنقاذ البلد وتمكينه من استعادة سيادته والدفاع عن مصالحه.

يدرك البطريرك أنّ ثمة حاجة الى صيغة لإنقاذ لبنان وأنّ ثمة حاجة الى شجاعة وجرأة لتفادي السقوط في فخّ الشعارات الفارغة عن المقاومة والممانعة وما شابه ذلك.

لم يجد الراعي أفضل من إعلان«الحياد النشط للبلد» و«المؤتمر الدولي برعاية الأمم المتحدة» كي يستعيد اللبنانيون بعض الأمل بأن بلدهم قابل للحياة وأن هناك مخرجاً آخر لهم غير الهجرة والفقر والبؤس والتخلّف والعيش في ظل«عهد حزب الله».

من هذا المنطلق، اعتبر البطريرك الماروني«أننا نواجه محاولة انقلابية على كل ‏ميادين الحياة العامة على المجتمع وعلى ما يمثّل وطننا من خصوصية حضارية، وعلى وثيقة الوفاق ‏الوطني التي أقرت في اتفاق الطائف.

نحن طالبنا بمؤتمر دولي كي يجدد دعم النظام الديموقراطي، ‏وإعلان حياد لبنان فلا يعود ضحية الصراعات والحروب وارض الانقسامات بل يتأسس على قوة التوازن ‏لا على موازين القوى التي تنذر بالحروب».

‏وأشار إلى أن «الهدف من إنشاء دولة لبنان هو خلق كيان حيادي في هذا الشرق يشكل صلة وصل وجسر ‏تواصل بين الشرق والغرب.

لو تمكنت الجماعة السياسية عندنا من إجراء حوار مسؤول لما طالبنا بتاتاً بمؤتمر دولي برعاية ‏الأمم المتحدة يساعدنا على حل العقد التي تشل المؤسسات الدستورية».

‏لم يخجل البطريرك من القول«نريد من المؤتمر الدولي أن يُثبّت الكيان اللبناني المُعرّض جدّياً للخطر وأن يعيد تثبيت حدوده الدولية».‏

وفي انتقاد للحزب المسلّح (حزب الله)، قال:«نريد من المؤتمر الدولي تنفيذ القرارات الدولية بما يسمح للدولة اللبنانية أن تبسط سلطتها الشرعية على ‏كامل الأراضي اللبنانية من دون شراكة أو منافسة.‏

نريد من المؤتمر الدولي أن يوفّر الدعم للجيش اللبناني ليكون الوحيد القادر على الدفاع عن لبنان ‏واستعادة القدرات الموجودة لدى الشعب من خلال نظام دفاعي يمسك بقرار الحرب والسلم.

نطرح مشاريع حلول لا مشاريع مشاكل والحلول هي لكل لبنان ولكل لبناني ولبنانية. ‏

فالحلّ الحقيقي هو حل لكل الشعب لا لفئة منه دون سواها».

هل يمكن البناء على كلمة البطريرك الماروني الذي لم يترك موضوعا يهمّ اللبنانيين إلّا وطرحه؟ طرح مسألة «تسييس القضاء» ومصادرة المصارف لأموال اللبنانيين وغير اللبنانيين وعدم تشكيل حكومة.

لم ينس خصوصاً تفجير مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس الماضي. كان خطابه بالفعل شاملا.

أراد ان يؤكد للبنانيين ان الامل لم يفقد كلّيا بعد.

في الواقع، كانت كلمة البطريرك بمثابة خريطة طريق للخروج من الازمة العميقة التي يعاني منها لبنان.

دقّ ناقوس الخطر.

اظهر ان اللبنانيين ما زالوا يقاومون هيمنة «حزب الله» وايران.

ليست هذه الهيمنة قدرا.

لكنّ السؤال الذي سيطرح نفسه عاجلاً أم آجلاً هو الآتي: هل من رغبة لدى قوى نافذة، بدءا بالإدارة الأميركية الجديدة، وصولاً الى الفاتيكان والبابا فرنسيس الذاهب قريباً الى العراق من زاوية اهتمامه بمسيحيي الشرق، في عمل شيء من أجل إخراج لبنان من حال الانهيار؟ بشّر البطريرك بثقافة الحياة.

لعلّ العبارة الأهمّ في خطابه هي تلك التي قال فيها«ولدنا لنعيش في مروج السلام الدائم لا ساحات القتال الدائم».

خلاصة الكلمة التاريخية للراعي ان على لبنان الاختيار بين ثقافة الحياة وثقافة الموت.

تلك هي معركة لبنان الذي يدفع ثمن خروجه عن الحياد وتحوّله منذ ما يزيد على نصف قرن الى «ساحة» للآخرين.

حصل ذلك منذ توقيع اتفاق القاهرة في أواخر ستينات القرن الماضي. قضى السلاح الفلسطيني على التركيبة اللبنانية.

ورثته الوساطة السورية وصولاً الى الهيمنة الإيرانية القائمة حالياً.

لا يمكن تبرئة اللبنانيين من كلّ ما حل ببلدهم إلّا أن الثابت أنّهم في وضع لا يحسدون عليه مع سقوط بلدهم وتحولّه الى دولة فاشلة.

سيتبيّن قريباً هل كلمة بشارة الراعي مجرّد كلمة... أم أنّها أكثر من ذلك بكثير وسيكون لها تابع على الصعد العربيّة والأوروبية والدوليّة.

كان البطريرك واضحاً كلّ الوضوح عندما أكّد أنّه ما كان ليذهب الى الدعوة الى مؤتمر دولي لولا استطاع الزعماء اللبنانيون إيجاد تسوية داخلية.

كلّ ما في الامر أنّه وضع اللبنانيين أمام مسؤولياتهم لا أكثر ولا أقلّ.