واقع إيراني لا يستطيع بلينكن التنكّر له

24 نوفمبر 2020 10:00 م

بدأت ملامح إدارة جو بايدن تتشكّل وذلك قبل شهرين من دخوله البيت الأبيض. لا يمكن اعتبار تعيين انطوني بلينكن وزيراً للخارجية حدثاً عابراً. وقع اختيار بايدن على شخص عمل معه طويلا يمتلك خبرة في كل ما له علاقة من قريب أو بعيد بالسياسة الخارجية وتفاصيلها الدقيقة.

اكتسب هذه الخبرة من خلال العمل كمستشار للأمن القومي لبايدن نفسه عندما كان نائباً للرئيس باراك أوباما بين 2008 و2016 او كنائب لوزير الخارجية جون كيري لاحقاً، وقبل ذلك كالرجل الثاني في مجلس الأمن القومي.

من خلال المواقع التي شغلها، بما في ذلك وجوده الى جانب بايدن في الحملة الرئاسية، يستطيع بلينكن ان يكون على اتصال مباشر بالرئيس الجديد.

هذه صفة لم يتمتع بها معظم وزراء الخارجية الاميركيين الذين شغلوا هذا الموقع. من هذا المنطلق، سيكون وزير الخارجية الأميركي الجديد قادراً على إعادة الاعتبار لعدد كبير من موظفي الخارجية، من الديبلوماسيين المحترفين الذين شعروا بالتهميش في عهد دونالد ترامب.

سيعيد تركيب وزارة الخارجية على أسس مختلفة. سيعيد قبل كلّ شيء الاعتبار الى الديبلوماسيين المحترفين الذين يؤمن بهم بايدن.

أكثر من ذلك، عندما سيفاوض بلينكن في مجال العودة الى الاتفاق النووي مع ايران، فهو يفعل ذلك من زاوية من يعرف كيف التعاطي مع ايران من جهة وأهمّية الشراكة الأوروبية في الحدّ من قدرة ايران على التوسّع من جهة أخرى.

ينتمي بلينكن الى مدرسة مختلفة عن تلك التي ينتمي اليها ترامب والفريق الذي دفعه الى تمزيق الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني في العام 2018.

كان هذا الفريق يعرف تماماً ما على المحكّ مع ايران. جاء تمزيق الاتفاق تتويجاً لغياب أي ثقة أميركية بايران وذلك منذ قيام «الجمهورية الإسلامية» في العام 1979 واحتجاز الديبلوماسيين الاميركيين في طهران 444 يوماً.

هل يعي بلينكن انّ طريقة تعاطي ترامب مع ايران كانت ناجعة خلافا لكل الطرق الأخرى التي لجأ اليها الرؤساء الاميركيون السابقون، من جيمي كارتر... الى باراك أوباما؟ ثمّة حاجة الى تبريرات قويّة لتفادي الاعتراف بهذا الواقع. لجأ وزير الخارجية الأميركي المعيّن الى هذه التبريرات التي قد تثبت الاحداث أنّها غير صحيحة ولا أساس لها...

لدى بلينكن وجهة نظر مختلفة في شأن الملفّ النووي الإيراني. تقوم هذه النظرة، كما عبّر عنها أخيراً في مقابلة مع الصحافية المشهورة مارغريت برينان، على ان مقاربة إدارة ترامب للملف الإيراني لم تؤد الى النتائج المرجوة.

يركّز في هذا المجال على ضرورة التوصل الى صفقة مع ايران بمشاركة الحلفاء (الأوروبيين والدوليين) تؤدي الى الحد من التصرفات الإيرانية المشكو منها.

هناك وعي لدى بلينكن لاهمّية وجود تحالف واسع في مواجهة ايران. مثله مثل جو بايدن، يتحدث عن ضرورة وجود مثل هذا التحالف في أي مواجهة مع الصين.

مثل هذا الرأي وجيه الى حد كبير. لكن السؤال الذي سيطرح نفسه عاجلا أم آجلا ما العمل، اميركيا، بعد توقيع ايران في يونيو الماضي «اتفاقا استراتيجيا شاملا» مع الصين لمدّة 25 عاما. في الواقع، إنّ مثل هذا الاتفاق لا افق له. يعود ذلك الى ان ايران لا تريد ان تعرف تماما هي الصين على الرغم من العلاقات القديمة بين طهران وبكين.

لا تريد «الجمهورية الإسلامية» الاعتراف بانّ مثل هذا الاتفاق يضعها تحت نوع من الوصاية. ولكن ما العمل في عالم يعتبر فيه الايرانيون ان في استطاعتهم التذاكي على أي كان في العالم، بما في ذلك الصين.

من الواضح انّ بلينكن ليس شخصاً سهلاً. اتخذ كلّ احتياطاته في تعاطيه مع الملفّ النووي الإيراني ومسألة احتمال العودة اليه. كان في الفريق الذي تفاوض مع ايران سرّا قبل التوصل الى الاتفاق صيف العام 2015، وهو اتفاق بين ايران من جهة ومجموعة الخمسة زائدا واحدا من جهة أخرى.

للتذكير فقط، تضم مجموعة الخمسة زائدا واحدا البلدان الخمسة ذات العضوية في مجلس الامن وألمانيا.

لا يمكن رفض كلّ ما قامت به إدارة ترامب دفعة واحدة. قد تقتنع إدارة بايدن بذلك ولكن بعد تثبيت رجليها في البيت الأبيض.

لا يمكن افتراض أنّ ترامب لم يعرف كيف التعاطي مع ايران. على العكس من ذلك تماما كان هناك حوله فريق عمل يعرف تماماً كيف التعاطي مع «الجمهورية الإسلامية» ومشروعها التوسّعي.

الأكيد أن ترامب نفسه لم يكن يعرف الكثير عن ايران. لكن ما هو أكيد أيضاً ان الذين كتبوا له خطاباته، وصولا الى تصفية قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» يعرفون ايران جيّدا.

يبقى بلينكن وزيراً واعداً للخارجية الأميركية. يكفي انّه اعترض على قرار باراك أوباما الرافض للاقتصاص من بشّار الأسد بعد ضربه الشعب السوري بالسلاح الكيميائي في أغسطس من العام 2013.

يقول وزير الخارجية الأميركي المعيّن الآن انّ المأساة التي حلت بالشعب السوري ستلاحقه الى آخر أيّامه. ربّما كان ذلك عائدا الى انه من أمّ وأب يهوديين وأنّه عاش فترة مع والدته في باريس بعد طلاقها من والده وزواجها من شخص كان من بين الناجين من المحرقة النازية.

من هذا المنطلق، يمكن أيضا فهم ليبيرالية بلينكن، فلسطينيا، وتأييده خيار الدولتين خلافاً لما يطالب به اليمين الإسرائيلي. تدفعه هذه الليبرالية الى تأكيد «استحالة» أي لقاء بين إدارة بايدن والنظام السوري الحالي الذي على رأسه بشّار الأسد.

دخلت الولايات المتحدة في عهد بايدن مرحلة جديدة مختلفة كلّيا عن مرحلة عهد ترامب. من خلال بايدن ووزير الخارجية المعيّن، ستكون هناك إدارة أكثر إنسانية. لكنّه يفترض بمثل هذه الإدارة الاعتراف بانّ تركة ترامب ليست مجموعة من السلبيات فقط.

هناك إيجابيات لا يمكن تجاهلها. من بينها ان العودة الاميركية الى الاتفاق النووي مع ايران ستكون من موقع قوة. ليس ترامب وحده الذي عرف كيف يكشف ان ايران ليست سوى نمر ورق.

من فعل ذلك كان مجموعة محيطة به تعرف تماما ما هي ايران ومدى تأثير العقوبات عليها. مثل هذا الواقع لا يمكن إنكاره والتنكر له، وهو بين التحديات التي ستواجه بلينكن وآخرين في إدارة بايدن.