عاش مع «أبو عمّار» وتعايش مع «أبو مازن»

12 نوفمبر 2020 10:00 م

تجسّد شخصية الدكتور صائب عريقات رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية، الذي توفّي قبل أيّام عن 65 عاماً في مستشفى إسرائيلي، الدائرة المقفلة التي تدور فيها القضيّة الفلسطينية منذ عقود عدّة، منذ توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993 تحديداً.

بغض النظر عن الظروف التي أدّت إلى توقيع اتفاق أوسلو، من اللافت التوقف عند أمرٍ في غاية الأهمّية. هذا الأمر يعبر عنه عريقات أفضل تعبير، وهو يتلخّص بعبارة واحدة هي: المفاوضات من أجل المفاوضات.

هل هناك في نهاية المطاف مهنة اسمها مهنة التفاوض؟ هناك مهنة اسمها طبيب او مهندس او محام او فرّاش... او دهّان. لا توجد مهنة اسمها مفاوض لمدى الحياة او «كبير المفاوضين». ما نفع المفاوضات في حال لم تؤد الى الهدف المطلوب؟ كان ظهور عريقات كعضو في الوفد الأردني - الفلسطيني الذي شارك في مؤتمر مدريد للسلام في أواخر العام 1991 حدثاً لافتاً. جلس في مقعده وعلى كتفيه الحطّة الفلسطينية. اثار ذلك وقتذاك غضب الجانب الإسرائيلي الذي هدّد بمقاطعة جلسة افتتاح المؤتمر، لكنّ التدخل الحازم الحاسم لجيمس بايكر وزير الخارجية الأميركي حال دون ذلك.

بقي عريقات في مقعده مع الحطّة الفلسطينية كي يؤكّد أنه ليس في الإمكان إلغاء الفلسطينيين وفلسطين. ما لبث الفلسطينيون أن خرجوا من الوفد المشترك مع الأردن ودخلوا في مفاوضات سرّية مع الإسرائيليين في أوسلو. تولّى ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، تغطية المفاوضات السرّية التي نجم عنها اتفاق سمح له بدخول البيت الأبيض من جهة والعودة الى أرض فلسطيني التي دفن فيها من جهة أخرى.

ارتبط اسم عريقات بالمفاوضات منذ 1991. تميّز بأنّه كان يعرف بأدق تفاصيل الاتفاقات مع إسرائيل، كان يعرف كيف يفاوض وكيف يجادل ولكن في نهاية المطاف، كان القرار عند عرفات ثمّ عند خليفته محمود عبّاس (أبو مازن) الذي لعب دوراً محورياً بالوصول الى اتفاق أوسلو. كان الاحتفال بتوقيع اتفاق اوسلو في حديقة البيت الأبيض في عهد الرئيس بيل كلينتون.

لا يتحمّل عريقات أي مسؤولية في وصول الوضع الفلسطيني الى ما وصل إليه في السنة 2020. كان عليه المحافظة على موقعه في ظلّ التغييرات الكبيرة التي حصلت في الإدارة الفلسطينية بعد وفاة «أبو عمّار» قبل ستة عشر عاماً في الحادي عشر من نوفمبر 2004 وحلول «أبو مازن» مكانه على رأس قيادة منظمة التحرير الفلسطينية و«فتح» والسلطة الوطنية الفلسطينية في آن.

استطاع عريقات القيام بالنقلة المطلوبة، خصوصاً أن عبّاس لا يطيق احاطة نفسه بأيّ شخصية ذات وزن فلسطينياً أو إقليمياً أو دولياً. كان ولا يزال مصرّاً على أن يكون حوله اشخاص مطيعون من دون طعم أو رائحة أو موقف.

عرف عريقات كيف التكيّف مع «أبو مازن» الى أبعد حدود، وهذا ما لم يستطع كثيرون غيره فعله. ترقّى الى موقع أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وبقي مسؤولاً، وان اسمياً، عن المفاوضات مع إسرائيل، على الرغم من عدم وجود مثل هذه المفاوضات وحلول حملة استيطان واسعة مكانها.

ستمرّ سنوات طويلة قبل معرفة هل فوّت عرفات فرصاً اتيحت امامه أم لا في مرحلة ما بعد أوسلو؟ لكنّ الأكيد أنّ هناك مرحلة في غاية الأهمّية مرّت منذ العام 1993. كانت شخصيّة عريقات، وإن من باب الزخرفة، جزءاً من تلك المرحلة التي تميّزت بفقدان المعرفة الدقيقة لدى عرفات بالداخل الإسرائيلي وطريقة تصرّف الإسرائيليين أوّلا وباللعبة السياسية في واشنطن ثانياً واخيراً.

في مرحلة ما بعد أوسلو، لم يعد كافياً اتقان لعبة العلاقات العامة التي كانت اختصاصاً عرفاتياً بامتياز ولم يعد جائزاً إضاعة أي فرصة لإقامة علاقة في العمق، تحت عنوان الصدق، مع واشنطن.

تكمن أهمّية عريقات في أنّه استطاع العيش مع «أبو عمّار» والتعايش مع «أبو مازن». كان في كلّ وقت رمزاً لإحدى المرحلتين. ما لابدّ من الاعتراف به أنّه كان هناك تفاوض في أيّام «أبو عمّار»، في حين لم يعد هناك أي أمل بتسوية جدّية بعدما بدأ عهد اليمين الإسرائيلي ووصول ارييل شارون الى موقع رئيس الوزراء مطلع العام 2001، قبل سنوات ثلاث من وفاة عرفات في ظروف غير غامضة، على العكس مما يتوهّمه كثيرون.

ما الذي ينتظر الفلسطينيين في مرحلة غياب المفاوضات وذلك قبل غياب من كان يسمّى «كبير المفاوضين»؟ تبقى الحاجة الى مواقف شجاعة تسمّي الأشياء بأسمائها مع ما يعنيه ذلك من بحث عن كيفية إيجاد قيادة جديدة، شابة نسبيا، في الضفّة الغربية تستند الى شرعية شعبية مستمدّة من انتخابات حرّة.

لا أمل في الوقت الراهن في أيّ تغيير في غزّة حيث لن تنفع الانتخابات بوجود سلاح «حماس» الموجّه الى صدور أهل القطاع... وليس الى إسرائيل في طبيعة الحال. مثل هذه القيادة الفلسطينية الجديدة في الضفّة تستطيع التعاطي مع المستجدات الإقليمية والدولية من دون عقد. تستطيع مثل هذه القيادة القول لـ«حماس» إن كلّ ما قامت به إلى اليوم صبّ في خدمة المشروع الإسرائيلي ليس إلّا.

فوتت «حماس» على الفلسطينيين فرصة إ ظهار القدرة على ان يحكموا نفسهم في ظروف حضارية متى يزول الاحتلال. كانت هناك فرصة حقيقية لدحض كلّ الادعاءات الإسرائيلية بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزّة صيف العام 2005. فضّلت «حماس» تحويل القطاع الى «امارة إسلامية» على الطريقة الطالبانية بدل جعله مكانا تطيب الحياة فيه.

مع رحيل عريقات، انتهت مرحلة فلسطينية تميّزت بالتفاوض من أجل التفاوض أو بالظهور في مظهر من هو مستعدّ للتفاوض في وقت لا وجود لأيّ اهتمام إسرائيلي بذلك.

سيكون السؤال الذي سيطرح نفسه عاجلاً أم آجلاً، كيف يحطّم الشعب الفلسطيني قيود الحلقة المقفلة التي تحوّل أسيراً لها؟ هل من أمل في ذلك؟ الجواب نعم كبيرة. هذا يعود الى أنّ إسرائيل لن تكون قادرة، مهما فعلت، على إلغاء شعب يظهر كلّ يوم أن لديه هويّة وطنية راسخة بغض النظر عن أشخاص معيّنين تحولّوا أسرى السلطة ولا شيء آخر غير السلطة.