قصة قصيرة / العيد... عزيز

1 يناير 1970 05:59 ص
| وليد الهداد |

ها أنت يا صغيري تستلقي في فراشك كالطير المذبوح... يحاصرك المرض، من كل صوب... سعالك تكبيرات عيد المدينة الصامتة في غيابك... وارتجافة عودك الهزيل... زلزال يضرب في الروح، تكبيرات عيد، وأي عيد لي وأنت يغيبك المرض... لا عيد إلا أنت.

«العيد عزيز» عزيز... في صلاتي أدعو الله: «يا ربي أعطيتني إياه والآن أخذته مني؟... جعلتني أحمله في أحشائي أشهراً طويلة... سهرت عليه في صحوه ومنامه... في فرحه وحزنه... مرضه وشفائه، وفي كل ليلة حلمت به رجلا حتى كان وزوجته ممن أحبها وأحبته وأفرحتني وأفرحته بولديه الصغيرين... والآن فقدته! بعد الصلاة... أفتقد القبلة التي تطبعها على قلبي قبل ذهابك لصلاة العيد، تحملني دموعي وأحزاني وأجر آهاتي إلى باب غرفتك الموصدة... أقرع الباب... متأملة أن يأتيني صوتك الشجي «أمي ادخلي»، ولكن الصوت الحزين كان لسارة زوجتك: ادخلي خالتي، أنت على السرير... زوجتك المكلومة تجلس على الأرض شاخصة ببصرها نحوك، وطفلاك البائسان... غافيان... يوسف على كفك الأيمن... وأحمد على كفك الأيسر.

لم يعد يسورك يا بني سوى علب الدواء الرطبة التي وصفها لك أطباء يئسوا من شفائك... ووكلوا ووكلت الله

بوجه شاحب مغمضا عينيك... أتظن أنني لا أعلم أنك لست نائما ؟

وأنك تغمض عينيك حتى لا أرى تلك الدمعة الحبيسة... هاهي يا عزيز دمعتك تنسل من طرف جفنك إلى خدك... لتشي بألمك، فأغدو يا بني كالميتة إلى جانبك... أهبط على يدك أقبلها بدموعي، لم تبلغ يا بني من العمر أوله... لو استطعت لأعطيتك من عمري إلى عمرك، لامتصيت هذا المرض اللعين من صدرك الصغير إلى صدري.

عزيز يا بني... من بعدك سيعتني بي... من غيرك سيوقظني من نومي اخر الليل لتناول العلاج... من يا عزيز سيغسلني يوم الممات... من سيبكي على أمك.

من يا عزيز... لا تجيبني سوى نظرات عينيك المتجمدتين... ودقات قلبك العالية، وحشرجة صوت بكاء زوجتك الصابرة تملأ المكان... انسل من باب الغرفة تاركة روحي عند قدميك.

العيد... عزيز، صراخ... عويل... أم عزيز تلطم على خديها بقسوة كبيرة... تشق ثوبها، البيت امتلأ بالنسوة... واحدة تحضنني والأخرى تقبلني... خدود ممتلئة بالدموع، أحمد ويوسف يمسكان بي بفزع وعيون دامعة، وأنا جالسة على تلك الأريكة كدمية كبيرة... هل أنا في حلم أم صحو؟!

الكل سواي يبكي... نشفت الدموع في عيني... أحس بدمي مجمدا في عروقي... أنهض من ذلك المكان إلى غرفتي الموصدة، جسدك الهزيل لازال مسجى على ذلك السرير... عيناك مغلقتان... شفتاك شاحبة، ويدك باردة: نائم أنت يا عزيز... أليس كذلك؟

عزيز...عزيز، أجبني يا عزيز... أنا «ساره» زوجتك، أجبني! عزيز انهم في الخارج يبكون... يقولون إنك مت!

أنت نائم... نائم يا عزيز، أجبني... أصرخ: «أجبني»، أهزه بعنف «استيقظ... استيقظ يا عزيز»، لا يرد... لا يجيب: عزيز... انه العيد... يوسف وأحمد ينتظرانك بالخارج مطالبان بعيديتهما.

ورحلة مدينة الألعاب التي وعدتهما بها... منذ الصيف وهما يعدان الأيام لقدوم العيد، من أجل هذه الرحلة.

هيا تحرك... انهما ينتظرانك بالخارج هيا... عزيز... عزيز...!، أهرع إلى دولابي... أفرغ أغراضه كلها على الأرض!، أخرج دفترا قديما أحتفظ به... ومن بين صفحاتي أخرجها: عزيز... أترى هذه الوردة المجففة... أتتذكرها؟

إنها الوردة التي أهديتني إياها في أول موعد عند باب الثانوية، مازلت أحتفظ بها هنا... ألم تعدني يومها أنك لن تتركني أبدا... ألم تقسم على ذلك؟، لن تتركني أليس كذلك... لن تترك أمك أيضا ولا أحمد ويوسف.

عزيز أجبني يا عزيز... عزيز: عزيز، لم يتبق الكثير على عيد ميلادك يا حبيبي... لقد اشتريت لك مصحفا هدية لك... وكثيرا من الشموع، وأوصيت محل الحلويا ت بتحضير قالب من الكيك والحلوى... أيفرحك ذلك يا عزيز... يفرحك؟

يا عزيز... أجبني، اهزه بعنف... عزيز... عزيز، أمسك بيده الباردة جدا، أحضنها، أقبلها... أتحسسها... لا نبض، أضعها على خدي... باردة بلا حياة، أحضنه بشدة، رأسي على صدره... قلبه بلا حراك... أصرخ عاليا: عزيز، العيد... عزيز.

كانت اغفاءة صغيرة .. ولكن راحة كبيرة أعقبتها... لم يمض الكثير من الوقت، أحس بجسمي باردا جدا... ولكن كل الآلام التي كانت تفتك بي اختفت جميعها... بعض الغشاوة على عيني، ولكن الصورة بدأت تتضح ... كان أحمد ويوسف عند قدمايّ يبكيان...!

ترى لماذا يبكيان في يوم العيد؟ أناديهما: يوسف .. أحمد لماذا تبكيان يا قلبي؟ ولكنهما لا يجيباني مسترسلان في بكائهما... كأنهما لم يسمعاني! حتى أنهما لم يلتفتا إليّ!

أسمع صوت بكاء عن تلك الزاوية... انه صوت ساره... التي كانت تجلس على الارض في إحدى زوايا الدار

إنها تبكي بحرقة وبصوت مخنوق... أناديها: «ساره»، لا تجيب! أصرخ بها: «ساره»، ولكنها أيضا لا ترد علّيّ.

بعدها بلحظات... تقدمت ساره ببطء صوبي... تناديني: عزيز... رد علي. عزيز أنا ساره... عزيز أجبني!

أصرخ بها: ساره... أنا هنا، ساره أنا أسمعك... ساره، كانت كمن لا تسمعني... صراخها ملأ قلبي بالخوف... من عند الباب؟، إنه صوت «أمي»... نعم إنها أمي، تنزل عن قدماي تقبلهما... تحتضن ولديّ، تقبلهما، تضمهما إلى صدرها... وهي تبكي بحرقة وصوتها يتشنج، ساره تحتضن صدري وتهزني بعنف: عزيز قم استيقظ، قم يا عزيز...عزيز أنت لم تمت... لم تمت! انهض وقل لهم إنك لم تمت!، يا إلهي... ماذا قالت ساره... هل ذكرت الموت؟، أيعقل أن أكون ميتا...؟ هل رحلت عن أمي وساره وولدايّ؟، لا... أنا لم أمت!

أمي تخلص جسدي من دفء يدي سارة... وتحضنها، وتسقطان في دوامة صراخ وبكاء، أحدهم ذا ظل كبير يدخل الغرفة، يبعدهما، يضع الغطاء على وجهي... بعد فترة، يرفع ذلك الغطاء... ماء مسكوب بارد يغطي جسدي الهزيل... لا أرى أحداً من أولادي... لا أحمد... ولا يوسف، بعض الأقرباء بوجوه شاحبة... يحيطون بي بوجوه تتساقط من عيونها الدهشة، ويملأ أفواهها الفزع... لباس أبيض لف به جسدي... صلاة أقيمت... وها هما أحمد ويوسف «آه يا حبيباي الصغيرين»، يوسف يبكي بصوت عال، ويصرخ... أحمد يحاول جاهدا برغم محاولات منعه أن يمزق ذلك الأبيض الذي يحجب وجهي عنه... وهو في نوبة هستيرية من البكاء... كان يصرخ يناديني: «أبي... أبي.».

هنا... يسرع الحاملون إلى وضعي في حفرة من التراب، على بعد أقل من متر كانت تستقر لوحة من الخشب كتب عليها اسمي كاملا وتاريخ ولادتي وتاريخ اليوم، صوت تلقين: ان... «أتسمعني يا عزيز»، ان « سوف يأتيك ... وسوف يسألك... وسوف تجيبه... وان «الحياة حق... والموت حق» ، وأن «لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله».

حتى انهال عليّ الحاضرون بالتراب من كل صوب، لم ألاحظ أمي وساره إلا في تلك اللحظة... كانتا تقفان بعيدا مع النسوة تراقبان الأحداث كلها بدموعهما... وما أن فرغ من كانوا يهيلون التراب من عملهم.. حتى جاءتاني مسرعتين

بأقصى مقدرتهما... ارتمت امي على ترابي... تحضنه... تمرغ وجهها في طينه، تصيح: ولدي، عزيز...عزيز، ساره كانت تقبل اسمي على الشاهد الخشبي... وتغسله بدمعها، كانتا تبكيان بحرقة كبيرة... وتحت أقدامهن كان يوسف وأحمد يبكيان، حتى أبكياني معهما... كنت أناديهما ولا تسمعاني: أمي... ساره... انادي : يوسف... أحمد ولا مجيب... سوى الدموع.

مرت الدقائق مسرعة... لا أصدق أنه وداع الأحباب للأحباب، دموعهم أحرقتني، ولا بيدي سوى الدموع، بعض النسوة تكفلن بسحب أمي وساره عن التراب، والبعض الآخر بجر يوسف وأحمد وسط عويلهم وبكائي.

أنادي عليهم... ووجوهم بدأت بالغياب: لا تذهبوا... إرجعـــوا، لا تتركوني وتذهبوا... أرجوكم، اتركوا لي ولداي... لا تذهبوا... لا تذهبوا.

بينما الشمس بدأت بالمغيب... كانت ملامحهم قد غابت!