«كانت ولادتي في مدينة غزة»

حامد سعيد مرتجى: مسيرتي التعليمية بالكويت بدأت العام 1954 في المدرسة الأحمدية

1 يناير 1970 05:53 م
كلٌ له في حياته مسيرة يسلكها وقد تكون مليئة بالمحطات والوقفات وهذا لا يتحتم الا مع من كان في ركب معلمي الرجال الذين تعلموا العلم وعلموه وحطت رحالهم في بلدان ومحطات كثيرة فكان لهم وقفات في عقود زمانهم، ضيفنا اليوم درس في مدارس غزة ثم درس وعلم في معسكر اللاجئين الذي أقيم من أجل احتواء الأهالي الذين نزحوا الى غزة أيام أحداث فلسطين الأولى... جاءت البعثة الكويتية الى تلك المدينة سنة 1954م فكان أحد المتعاقدين معها فشد رحله الى الكويت فأدركها وهي مدينة يحيطها السور من كل جانب عندما كانت الحركة العمرانية لم تدب بها بعد..
ودرس في المدرسة الأحمدية ثم انتقل الى الفنطاس التي قضى جل عمره بها فأدركها قرية صغيرة وهو اليوم سوف يسرد لنا ذكرياته في رحلته العلمية والعملية فلنترك له ذلك.
أنا من غزة من البلد نفسه ولم أدرك والدي فهو توفي وعمري (ستة أشهر) والذي تولى تربيتي هو عمي جزاه الله خيراً وكان تاجر حبوب وكنا نقيم في قرية تسمى (الكوفخا) تابعة لغزة وهي التي بدأ فيها سلم التعليم وكان شيخنا في ذلك الوقت الشيخ (محمود جحا) وهو يأتينا من قرية بجوار قريتنا تسمى (المحرقة) وكنا ندرس عليه العلوم الشرعية والمواد العلمية التي يحتاجها الطلبة من لغة عربية، حساب، قرآن، وكان يأتينا كل يوم على دابته من أجل تدريسنا ونحن من غزة نفسها ولكن ذهبنا الى تلك القرية لوجود أرض لوالدي بها لكي نزرعها ونرعاها وحين التحقت بالمدارس النظامية أجرى لي امتحان تقييم للمستوى ويحتوي على جميع المواد الأساسية من لغة عربية، حساب، قرآن وغير ذلك للوقوف على المستوى ونظراً لذلك المستوى يتم تحديد الصف الذي أدرس فيه وقد تم ودخلت الصف (الرابع الابتدائي) والتحقت بالمدرسة الهاشمية الابتدائية وبعدها مدرسة الامام الشافعي، ومازلت أتذكر ناظرها وهو الاستاذ محمود الخالدي وكان من الحريصين على مصلحة الطلاب ورعايتهم وكانت له هيبة ووقار وكان الجميع يهابونه حتى المعلمون كانوا يخافون منه، وعند وصولي الى مرحلة الصف الثاني الثانوي جعلتني ادارة المدرسة مدرساً اضافياً معهم وكان ذلك نظراً لحاجة المدرسة الى معلمين وأصبحت معلماً في المرحلة الابتدائية وكانت المدرسة التي اصبحت فيها معلماً هي الأشجعية وكان ذلك قبل الحرب العالمية الثانية وحينما اندلعت الحروب مع اليهود في فلسطين عملت مدرساً في مدارس اللاجئين وهو عمل تطوعي ليس فيه الا مكافأة (ثلاثة دنانير) الى بعض الأمور الأخرى التي كانت تصرف لنا.
وبعد مضي عدة سنوات جاءت البعثة الكويتية وتعاقدت معه مدرساً وكان في ذلك الوقت يحمل شهادة الثانوية، وقد حطت قدماي الكويت بتاريخ 8/9/1954.
الكويت
وكان مدير البعثة الكويتية التي تعاقدت معها في ذلك الوقت (عبدالله حسين، ومعه درويش البغدادي).
ورحلة مجيئنا مرت من غزة الى مصر ثم الى بيروت ثم الكويت عن طريق الطائرة، وكان نزولي بمطار الكويت القديم بالمنصورية وكان الطيران من نوع (داكوتا) بمحركاته الهوائية، وقد استقبلنا المسؤولين ومكثنا ثلاثة أيام بضيافتهم ثم كل ذهب يبحث له عن سكن وأنا مع مجموعتي وجدنا سكن عزاب خلف البنك البريطاني.
والكويت في ذلك الوقت كانت محاطة بسور له أبواب ووزارة التربية كانت تتولى نقلنا من ذهاب وعودة الى مقار عملنا، وأول مدرسة عملت بها هي المدرسة الأحمدية وكان ناظرها رحمه الله هو (ربحي العارف) وكنت أدرس فيها الحساب وكنت أدرس فيها في الفترة الصباحية، أما الراتب فقد صرف لي معاش قدره (900 روبية).
الفنطاس
بعد مضي عامين تزوجت وانتقل عملي الى قرية الفنطاس وعملت مدرساً للمرحلة الابتدائية والمتوسطة وكانت مدرسة مشتركة وكان ناظر تلك المدرسة يسمى (فؤاد أبوعماشة) أما المادة التي كنت أدرسها فهي اللغة العربية.
أما بعد ذلك في السنوات اللاحقة فقد كنت أدرس مادة الرياضيات وأنا بطبيعتي جاد في عملي ومخلص فيه، فإذا كانت عندي حصة الساعة الثامنة أطلب من الطلاب أن يأتوني في الساعة السابعة وأبدأ معهم بتدريسهم المقرر المطلوب حتى طابور الصباح فلم أحضره وذلك لانشغالي بالطلبة وبتدريسهم للعلوم والمواد التي سوف يدرسونها في العام الدراسي لذلك كانت نتائجهم ومستوياتهم كانت دائماً عالية ومتفوقة عن جدارة.
حين جئت الى الفنطاس كانت قرية صغيرة وكانت بيوتها تعد على الأصابع وكان عدد الطلاب لا يتجاوز (93 طالباً).
إلى جانب ذلك لم يكن بالمنطقة كهرباء الا بالمدرسة التي كنت أدرس فيها وقد عمل معي في تلك المدرسة مدرس اسمه (ناصر الحنيف) التي سميت باسمه مدرسة في الفنطاس، أما الملا مزعل الصلال فلم أدركه لأنه كان قبله.
وهو مدرس للمواد الشرعية بالفنطاس لكنني رأيته في احدى المناسبات في الفنطاس
ولم يكن بالفنطاس إلا متجر واحد للمواد الغذائية ومخبز واحد وهناك ايضا دكان الحقان الذي كان يباع فيه الارز والقهوة إلى جانب بعض المواد الغذائية.
وكان سكني مقابل مسجد الفنطاس القديم وليس بيني وبينه إلا سبعة أمتار وكان البيت الذي اسكن فيه ملكا (لناصر الحمدان) ابو سلمان وقيمة الايجار (150 روبية) وخلال فترة الصيف كانت هناك فترة سماح من الايجار، وكان البيت عبارة عن ثلاث غرف وبئر للماء وسط الحوش والمزارع تحيط بالفنطاس فكانت هناك مزرعة (للسعيد، والفرج، والعثمان والحقان)، وكنا نتجول بها بعد انتهاء التدريس وكنا نأخذ منها (البندورة «الطماطم»، والفجل، والبقدونس، والجرجير، والطروح، وكانت حلوة المذاق)، وكانت تلك الخضراوات كأنها مثل العسل المصفى رغم انها تسقى من ماء فيه ملوحة الا ان طعمها كان حلو المذاق وشهيا جدا ولم يكن الأهالي تأخذ منا شيئا حين نأخذ تلك الاشياء منهم ويقولون (كيف نأخذ منكم وأنتم مدرسون عندنا).
الانتقال
انتقلت إلى مدرسة الصباحية بعدما قضيت (سبعة عشر عاما) في الفنطاس عملت مدرس أول للرياضيات لأنني أكملت تعليمي الجامعي بجامعة بيروت العربية وأنا اصلا كنت في غزة ناظرا لمدرسة ثانوية، اما شهادتي الجامعية فهي كانت في المحاسبة ولكنني لم استمر بمدرسة الصباحية لان الصف الرابع المتوسط انتقل إلى مدرسة الكندي بالفحيحيل وكان ناظرها (فؤاد الصالح) واستمررت بها حتى تحولت المدرسة إلى مدرسة ثانوية بعدما كانت للمرحلة المتوسطة بعد ذلك انتقلنا إلى مدرسة (سيد ياسين الطبطبائي) في المنقف واستمررت بها حتى سنة 1990م وأحلت إلى التقاعد في ذلك العام.
السكن
أنا سكني وكل عمري وشبابي ومرحلة رجولتي وهرمي وحياتي حتى أولادي قضيناها في منطقة الفنطاس لم أغير سكني الا ثلاث سنوات في منطقة الفحيحيل ثم عندما جاءت الكهرباء إلى الفنطاس رجعت اليها مرة ثانية.
وقد عمرت البيوت الجديدة بالفنطاس فاستأجرت اربع غرف مع بلكونات وصاحب الملك كان (أبو جمعان الغريب) بمبلغ (عشرين دينارا) من فترة 1965م وقضيت (29 عاما) في ذلك السكن، ونعم الجيران وكنا معهم مثالا للجيران الطيبين المتحابين، ثم انتقل سكني بعد ذلك إلى قطعة مجاورة لسكني القديم وقضيت به عدة سنوات ثم انتقلت إلى القطعة المجاورة لسكني وسكنت به ومازلت في هذا السكن ولم اتركه إلى يومنا هذا وقد امضيت من عمري (56 عاما) في منطقة الفنطاس وجميع اولادي درسوا في الكويت وهم 6 أولاد وبنت واحدة.
التعليم
اثنان منهم حصلا على شهادة الصيدلة من مصر والبنت تخرجت في كلية الطب في مصر، وثلاثة اتموا التعليم الجامعي بالكويت وقد حصل احدهم على شهادة الهندسة والاخر شهادة في الكمبيوتر.
مسائي
بجانب عملي في التدريس في الفترة الصباحية كنت ادرس بالفترة المسائية التي تتناول تعليم الكبار وقد كان في تلك الفترة هناك اقبال لدى تلك الفئة وغيرها ممن لم يحظ بالتعليم في الصغر.
اما من الذكريات التي اذكرها من خلال مسيرتي التعليمية كان هناك طالب في الصف الثاني الابتدائي وكنت ادرسه مادة اللغة العربية لا يعرف ولا يعلم عن المادة اي اساسيات وكان في المرحلة الثانية مما حدا بي ان احضر كتاب الصف الاول واعلمه من اول وجديد حتى اعلمه والحقه بصفي ومشيت معه في احد الايام واعطيته واجبا ولم يكتبه وضربته فذهب الطالب وأخبر والده واشتكى الوالد ناظر المدرسة المدير (حسين) والطالب الان من كبار الكتاب ومن الشخصيات المعروفة، واستدعاني المدير وسألني هل ضربت الطالب فقلت نعم وذلك للاسباب الآتية وسردت تلك الاسباب عليه، ثم قال سكرتير المدرسة (أحمد ياسين) الذي صار بعد ذلك ناظرا لاحدى المدارس ان المدرس الذي تشتكي عليه رأى ابنك في الصف الثاني ولكنه لا يجيد ولا يعرف شيئا فأحضر له كتب الصف الاول حتى جعله مؤهلا للاستمرار في الصف الثاني وذلك تطوعا منه، فلما علم ولي امر الطالب بالأمر وعلى إخلاصي وحرصي على ولده سحب الشكوى وقدم اعتذاره وقال ان ولدي هو المخطئ، وتكرر الموقف معي مع طالبين في الفنطاس احدهما ضربته ضربا وشددت عليه حتى التزم بالمذاكرة واجتهد واصبح من المتفوقين حتى انه صار مدرسا مرموقا وكلما قابلني والده قال لا انسى فضلك (يا أبو ناهض) وحرصك على مصلحة ولدي وشدتك عليه الذي جعله يدرس ويجتهد.
التلاميذ
تلاميذي اليوم كثيرون ولله الحمد منهم (الاطباء، والدكاترة، والضباط، واعضاء في مجلس الامة)، ومنهم (فيصل الخزام وأخوه حمود المحامي، وفريد العبدان، ومرزوق الحبيني عضو مجلس الامة)، وهو الذي عمل لي الكفالة بعدما تركت وزارة التربية جزاه الله خيرا وجعله في ميزان حسناته والله يرضى عنه، وعندما نقلت الكفالة على نفسي اي اصبحت كفيل نفسي زعل وقال يا ابو ناهض فضلك كبير وانت من معلمي الاجيال.
وايضا كان من تلاميذي (حمود الجبري) عضو مجلس الامة السابق واذكر ان والده رحمه الله عزمني على احدى مناسبات الزواج عندهم.
وكان من تلاميذي الشيخ (سالم دعيج الصباح، واخوه دعيج وتمام).
زمان
المدرسة الأحمدية حين قدمت اليها كانت مدرسة صغيرة درست بها اللغة العربية ولكن في مدرسة الفنطاس التي كانت تجمع الابتدائي والمتوسط فدرست بها (15 عاما) مدرسا لمادة الرياضيات، وايضا في الكندي مدرسا للرياضيات اما في الرقة فكنت ادرس في الفترة المسائية، وتدريسي في الكويت استمر لمرحلة (36 عاما).
الزواج
تزوجت في عام (1956م) والمهر كان مقداره (250 جنيها مصريا) في تلك الفترة كانت التربية تصرف تذاكر سفر لزوجتي وثلاثة من أولادي وكل ولد له علاوة وكنت كل سنة اذهب إلى غزة لان اجازتنا تبدأ في 15/6 إلى 15/9، وأما الحج فقد حججت سنة 1971م.
اما النشاطات الاخرى فلي دروس خصوصية وكانت لنفع الطلاب وليس لاجل المادة فقد كنت لا ارتبط بوقت فقد كنت اعطي الحصة ساعة او ساعتين او اكثر، وحين كنت في مدرسة الاحمدية فقد كان لي نشاط رياضي في تدريب كرة السلة.
اما بالنسبة للدروازة التي كنا نخرج منها ونعود إلى مدينة الكويت يوم ان كان السور ضاربا حول مدينة الكويت فانا ادركته ورأيته بدروازاته التي كان يخرج منه الناس والسيارات وأكثر ما كنت اخرج من دروازة البريعصي التي كانت تفتح على شارع الكهرباء القديم.
المولود
أول اولادي رزقت به سنة 1957م ولقد يسر الله ورزقني بثلاثة اولاد توأم دفعة واحدة وانا كنت مؤمنا وعمي هو الذي تولى تربيتي ونشأتي وكان عمي بذمته ديون للناس وكانت والدتي تقول لي تزوج حتى يكون لك اولاد وانا اقول لها لن اتزوج حتى اسدد دين عمي فهو الذي كنت اعيش في كفالته والحمد لله سددت ديون عمي وتزوجت ورزقني الله بأولاد ثلاثة مرة واحدة تعويضا عن فترة عدم زواجي في تلك الايام كانت الشيخة (بدرية سعود الصباح) كانت مديرة المستشفى الاميري، وكان اولادي بحاجة إلى رعاية والفنطاس بعيدة عن المستشفى الاميري وليس بها كهرباء واولادي ولدوا في ليلة القدر فالممرضة اللبنانية (منيرة مترو نصار) نصحتني بأن اجعل اولادي في المستشفى ولا اخرجهم فقلت اذا كانت الادارة ليس عندها مانع فذلك افضل فذهبت إلى الشيخة (بدرية) واخبرتها وانا بدوري قابلت الشيخة (بدرية) وقالت لي ارجع بأولادك إلى المستشفى حتى يكونوا في افضل رعاية صحية والله يجزيهما بالخير فقد مكث اولادي عاما في المستشفى وهم تحت الرعاية الصحية وكنت اتردد عليهم وكان دوامي على فترتين في الصبح والعصر.
السفر
كنا في الخمسينات والستينات نذهب إلى غزة عن طريق الشام لنشتري الهدايا والحلويات والملابس لاهلنا في غزة، وانا وان كنت من مواليد غزة الا انني عشت في قرية محاذية لها لان لوالدي ارض بها وهي ارض زراعية تكثر فيها الآبار المملوءة بالماء لكني لم امكث طويلا بها ورجعت إلى غزة.
الاحترام
كان في الاول خصوصا في منطقة الفنطاس كان المدرس له وضعه واحترامه وكان المدرس اذا مر بالشارع من احترامه لا تقبل عليه الطلبة وكان يهربون من الطريق الذي يمشي فيه المعلم.
والفنطاس كانوا اهلها اهل خير وبركة ومحترمين ولنا علاقات اجتماعية مشتركة كنا نشاركهم افراحهم واحزانهم، وكان السمك متوافراً بها وكان الهامور بـ (2.5 روبية) وكانت الامطار لا تنقطع عنها وكانت السيول تسيل من كل مكان وكانت تغلق الشوارع وتأخذ كل شيء امامها.
واذكر يوم ان جاء اولادي الثلاثة التوأم فقد عملت حفلة لعشرين معلما واشتريت ثلاثة خراف بـ (250 روبية) وخرجنا بالباصات مع المعلمين وكل معلم مع اسرته.
وكانت الحياة في تلك الفترة رخيصة فقد كان السكن في الشهر (150 روبية) وكيلو اللحم بـ (5 روبيات) واليوم انا صار لي (52 عاما) في الفنطاس وانا اتفقت مع اهل الفنطاس ان ازور ديوانيات (الحقان، الحمدان، الردهان، وحنيف) وكانت لهم عادات طيبة اذا انزل المطر خرجوا بالصحون المملوءة بالأكل عند المسجد وهم يقولون ان هذه (لقمة المطر).
وبالأعياد كل فرد يأتي بالأكل - هذا محمر وهذه لحمة وهذا مكبوس وكل فرد يأكل ويتبادل التهاني وكنا معهم، وكان الناس في الاول وهم فقراء كانت نفسيتهم جميلة عن الآن.
البنت
بنتي الكبرى من مواليد الكويت ودرست في الكويت ومقيمة بالمدينة النبوية ولي اليوم اربع سنوات اقدم لها كارت الزيارة ولكن للاسف ترفض طلب كارت الزيارة.