صوت هدر في السياسة وقلب فاض بالحزن في عزّ الشباب
إدوارد كينيدي فقده البحر والمركب... وخلّدته الذكريات
1 يناير 1970
02:41 م
|تعريب حاتم الزين|
صدر أخيراً عن دار «تويلف» الأميركية كتاب «البوصلة الصائبة» لمؤلفة السيناتور الأميركي إدوارد كينيدي.
الكتاب، أو المذكرات، الذي نُشر بعد أيام قليلة على وفاة كينيدي، يتضمن تاريخاً مليئاً بالمآسي لعائلة دخلت التاريخ من بابه الواسع ليس لأنها سكنت البيت الأبيض، بل لأنها سكنت القبور في عز شبابها بعد لعنة الموت التي طاردتها.
إدوارد، المعروف أيضاً باسم تيدي، يتوقف ملياً عند الحزن الذي عاشه بعد مقتل شقيقيه جاك وبوبي والمسؤوليات التي كان يجب عليه أن يتحملها، لكنه مع ذلك ترك مساحة في آخر كتابه ليتحدث عن الحب «المتأخر» الذي عاشه مع امرأة تفهمت وضعه ليعيش بقية عمره معها.
«الراي» تنشر ما أورده ميشكو كاكوتاني عن الكتاب في «النيويورك تايمز»، والذي جاء بعنوان «مياه كينيدي الصاخبة ومرافؤه الهادئة».
في نهاية مذكراته بالغة التأثير يكتب السيناتور الراحل إدوارد إم كينيدي عن حفيده «تيدي الصغير» - نجل ابنه «تيدي الأوسط» الذي ألقى خطاباً تأبينياً مفجعاً يوم الدفن السبت ما قبل الماضي والصعوبات المتعلقة بالحفاظ على السيطرة التقليدية للعائلة في الإبحار. لقد أخبر السيناتور حفيده الصبي البالغ من العمر أعواماً عشرة «أنه من الممكن ألا نكون الأفضل»، ولكن «بإمكاننا العمل بكد أكثر من أي شخص آخر. لقد بقيت هذه الكلمات مع تيدي الصغير الذي شبّ تواقاً إلى التعلم وبدأ يفوز في السباقات. وكما يكتب السيناتور «فإن الدرس الأكبر الذي بإمكان أي شخص أن يتعلمه هو أنه إذا كنت تواظب على الشيء»، كما يوحي عنوان كتابه، «وحافظت على اتجاه البوصلة»، وبذلت أقصى جهدك، «فإنك حتماً ستصل إلى الهدف».
إن هذا، بمعنى من المعاني، هو الفكرة الرئيسية من هذه السيرة الذاتية الصادرة من القلب، فالمثابرة والثبات والصبر في السعي لتحقيق هدف، أو التكفير عن إخفاقات الشخص، تؤدي كلها إلى الإنجاز وإمكانية التعويض.
إنها قصة كيف أن أصغر وأكثر من استهين به من أشقائه عثر ببطء وألم على هدفه الخاص والحقيقي تدريجياً، وذلك بتحمله الأعباء العائلية المنتظرة وواجب حمل أعباء أخوة القتيل. لقد وجد هدفاً ليس بالسعي الحثيث إلى الرئاسة، كما فعلوا، بل بعناده ورتابة مهام عمله اليومي، كونه سيناتوراً، مثل سن القوانين، الجلوس في اجتماعات اللجنة التي لا تنتهي، والخوض في السجالات الإعلامية وعقد صفقات بين الحزبين. إن القوانين الصادرة، ومن ضمنها قانون حقوق الإنسان العام 1964 وبرنامج التأمين الصحي للأطفال التابع للدولة، بإمكانها أن تساعد الفقراء والمحرومين وأولئك المعاقين، ما أكسبه الاعتراف به كأحد المشرعين الرئيسيين في التاريخ الأميركي.
إن كينيدي ليس كاتباً تأملياً. إنه يقر في صفحات كتابه أنه تعامل مع اغتيال شقيقيه جاك وبوبي عبر إجبار نفسه على خفض منسوب الأسى ومحاولة الحفاظ على التحرك إلى الأمام لاستباق الظلام وعدم الغرق في اليأس. لكنه يكتب في هذه الصفحات بأسلوب صريح عن الخسائر، عن الأفراح والهفوات في حياته، عن الحب والقرب من عائلته، عن العزاء الذي وجده لنفسه عن طريق الإبحار والبحر، وعن علاقاته المعقدة مع حلفائه ومنافسيه السياسيين. إن مواهب كينيدي المثيرة للجدل كحكواتي، فضلاً عن حس النكتة لديه - غالباً ما كانت تُلاحظ من قبل زملائه وأصدقائه - تألقت في صفحات كتابه، كما يظهر من خلال تبنيه اتجاه المدرسة القديمة في الخدمة العامة واكتسابه المعرفة بشق الأنفس، وكما يظهر من خلال كلمات نجله الأوسط: «حتى أعظم خسائرنا الجسيمة فإنها مازالت حاضرة».
في هذه الصفحات (رغم أنه يُعزى الفضل لرون باورز كمتعاون) يرسم كينيدي بعض الصور المحكية لسياسيين آخرين. عن جيمي كارتر، يكتب كينيدي: «لقد حيّر كارتر العديد من أقوى حلفائه في حزبه»، لكنني «اعتقدت حينها والآن أنه حجز مكاناً خاصاً في عدائيته تجاهي». ويكتب عن اعتراضاته على سياسات رونالد ريغان «أنها أكثر من أن تُحصى»، لكنه يبدي إعجابه بمنسوب التفاؤل الذي جلبه ريغان إلى البلاد بعد عهد كارتر. ويقول كينيدي، كاشفاً أكثر من ذلك، إنه مقتنع لو أن شقيقه جاك عاش لكان سعى إلى إيجاد طريقة للخروج من فيتنام: «لقد تحدث (أي جاك) مع ماكنمارا، أي وزير الدفاع روبرت إس ماكنمارا في حينها، عن خطة للانسحاب من فيتنام في غضون عامين أو ثلاثة أعوام». ويضيف أنه، أي تيدي، «مقتنع بأن قرار لجنة وارن كان صائباً».
لكن كينيدي كان شخصانياً أكثر من كونه كاتب مذكرات سياسية لا تُنسى في «البوصلة الصائبة». لقد كان رساماً هاوياً موهوباً، إذ إن ثمة حيوية في الصورة التي يستحضرها والتي جلبت له الحظ، ولكنها كانت ضاغطة بسبب الوحدة التي عاشها في بعض الأحيان في مرحلتي الطفولة والشباب. يشعر كينيدي، أحياناً، كما يقول، ان حياته عبارة عن «دوامة مستمرة من اللحاق بركب» المجد الأكبر المستمد من حياة أشقائه، كبطله المعشوق حين كان صبياً، أي جو الصغير الذي مات شاباً في الحرب، وجاك الذي آمن تيدي بأنه دائماً سيربح حتى ولو كان جميع خصومه ضده، وبوبي الذي لم يكن «بارداً وأنانياً» كما اتهمه بعض خصومه، ولكنه «عاش واتخذ قرارات في اللحظة المناسبة» استوعبت تماماً ما كان يقوم به.
إن تيدي دائماً الذي بفضل الإرادة والثبات - سواء في ما يتعلق بتمرير القوانين، أو القيام بتسلق الجبال المحفوف في المخاطر، أو الصر على أسنانه أثناء إلقائه خطاباً بسبب الألم الناتج عن وجود حصاة في الكلى كان يواظب على الاستمرار بإخبار ذاته «أستطيع التعامل مع هذا... أستطيع التعامل مع هذا».
وفي محاولته اتخاذ القرار في ما إذا كان سيخوض السباق الانتخابي إلى مجلس الشيوخ العام 1962، يكتب كينيدي أنه تذكر كلمات والده له حين كان صبياً: «بإمكانك أن تعيش حياة جدية أو لا، يا تيدي. أنا سأبقى أحبك مهما كان خيارك. لكنك إذا قررت ألا تكون لك حياة جدية، فإنه لن يكون لدي وقت للاستماع إليك. إنك تصنع رغبتك. هنا الكثير جداً من الأطفال الذين يقومون بأشياء ممتعة لي وبإمكانهم القيام بأكثر من ذلك معك».
وفي مكان آخر من هذا الكتاب، يخاطب كينيدي إخفاقاته الخاصة ومما أسف له. ولذلك يكتب كيف أن أفعاله العام 1969 في شاباكيديك غير «معذورة»، وكيف أن موت ماري جو كوبيشني «ظل يطاردني في حياتي كلها»، وكيف «أن التكفير (عن الذنب) عملية لا تنتهي أبداً». وعندما مات والد ماري بعد أربعة أشهر، يقول إنه تساءل عما إذا كان قصّر حياته بعد «الصدمة التي سببتها له بعد زيارتي له حاملاً الأخبار المأسوية عن الحادث في جزيرة شاباكيديك. إن الألم الناشئ عن هذه الصدمة من الصعب أن يُطاق».
وفي فصل آخر من كتابه، يتوقف كينيدي عند «أصداء قضية بالم بيتش كلها» - المتعلقة بمحاكمة ابن اخته بتهمة الاغتصاب (وتبين أنه ليس مذنباً) «وحياته العزوبية»، قائلاً: «كنت الشخص الخطأ حين قدت استجواب كلايرنس توماس»، وذلك خلال قيامه بمرافعة عن أنيتا هيل. وأضاف: «خاب أمل الكثيرين، لأنني لم أكن قادراً على الإتيان بدفوعات مقنعة على مرافعة توماس».
وبعد اغتيال شقيقه روبرت، يتذكر كينيدي كيف أن الغضب دفعه لقيادة سيارته بأقصى سرعة، وصلت إلى حد أنه «لا يمكن الضغط على الوقود أكثر من ذلك»، وكيف أنه قبل ذلك بأعوام تألم بوبي من الحزن إثر اغتيال شقيقه جاك، «ما أضاف مأساة على مأساة» لكل من الوالدة روز، وإيثل زوجة بوبي، اللتين تخوفتا من «بقاء طيفه». لقد كان شقيقه بوبي «ناشداً للمثالية» في ما يتعلق بفيتنام والبدء بمحاربة الفقر وعنف المدن وهذا في الواقع، كما يشير، «كردة فعل على موت جاك».
إن جريمتي جاك وبوبي لم تكونا مدمرتين فقط بالنسبة إلى تيدي كي تجعلاه يحيا على الأسى والوحدة، بل، على الأقل، أيضاً، جعلتا منه خائفاً على حياته من دون أي يدري. ولذلك يكتب كيف أنه ارتعب أثناء إطلاق 21 طلقة مدفعية في آرلينغتون كتحية للذين سقطوا في العراق، فهوى إلى الأرض دفعة واحدة، حين انطلقت سيارة في الاتجاه الخاطئ.
في العام 1982، يقول كينيدي إن أولاده أملوا بألا يخوض الانتخابات الرئاسية، فكان خوفهم الداخلي على حياته عاملاً حاسماً في قراره بعدم دخول السباق.
إن الحظوظ العاثرة لعائلة كينيدي تبدو دائماً وكأنها شيء من المأساة الشكسبيرية أو اليونانية، لكن تيدي كينيدي يواجه في صفحات كتابه مهمة صعبة في نقل الأبعاد الإنسانية المشتركة والعميقة لخسارته وخسارة عائلته التي عاشها يوماً بعد يوم جراء فقدانه شقيقيه جو جونيور وكاثلين حين كان لا يزال شاباً، إذ أصبح والد العائلة في سن السابعة والثلاثين عاماً لأبناء وبنات شقيقيه جاك وبوبي بعد رحيلهما، كما أصبح الراعي لطفلين من أبنائه بعد معاناتهما من السرطان، حتى وصل إلى نقطة من حياته بعد هذه النضالات والأحزان كلها «توقف فيها عن النظر إلى الأشياء»، هارباً من مخاطر «تحمل أعباء شخصية جديدة».
ومع ذلك، كان كينيدي في النهاية قادراً على كتابة خاتمة سعيدة لحياته. لقد وقع في الحب وتزوج في العام 1992 فيكتوريا ريجي التي أعطته «بتفهمها الواعي وحبها له» إحساساً جديداً من الاستقرار والطمأنينة، إذ وجد لعمله في مجلس الشيوخ معنى جديداً. كما وجد في باراك أوباما، الذي دعم انتخابه، تجسيداً جديداً للمثالية وإحساساً بالخدمة العامة التي لطالما آمن بها هو وأشقاؤه، كالكثيرين من الشباب على مدى أعوام مضت.
في أشهر حياته الأخيرة، يقول كينيدي إنه وجد «بعض المتع التي تملؤه بالسعادة»، وذلك بالتحديق في البحر وبقاربه مايا الذي يحبه، ما ترك في نفسه إحساساً بالسلام. فالإبحار، كما يكتب، «يحل مكان الفراغ في داخلي مع الإدراك بالوجهة. إنه إدراك على أن ثمة بداية للرحلة وثمة نهاية لها، وبالتالي فإن البداية والنهاية جزء من السيرورة الطبيعية للأمور».