هوايات السياسيين اللبنانيين

النائب حكمت ديب... «عملاق» في تربية الأشجار القزمة / 2

1 يناير 1970 11:22 م
|بيروت - من هلا داغر|
للسياسيين في لبنان شهرة في فن الكلام. فحين يصبحون في سدة المسؤولية يتحولون متكلمين من الدرجة الأولى. لكن الجانب الآخر الذي يكشف شخصياتهم وأهواءهم وأمزجتهم هو ما يمارسونه من هوايات، عادية حيناً، واستثنائية أحياناً، وإذا كانت الأوضاع غير المستقرة لا تسمح لهم في معظم الأوقات بممارستها، فإن بعضها يحرص على ممارستها خارج لبنان.
خلف الصورة الرصينة والجادة التي يظهرونها للناس، صورة أخرى مرحة وبسيطة، وحالة من الهوى لعادات أو هوايات تجعلهم ممارستها أقرب إلى الناس. وفي هذه الحال، يخلعون بزاتهم الرسمية ويتسلحون بعدة تلك الهوايات وينطلقون إليها حين تسنح الفرصة.
«الراي» التقت مجموعة من السياسيين واطلعت على هواياتهم.

إلى عالم أشجار «البونزاي» يأخذنا النائب في البرلمان اللبناني حكمت ديب، فيدخلنا في تفاصيله التي يتحدث عنها بشغف. هواية زراعة أشجار «البونزاي» المحدودة الطول والحجم بدأت معه قبل 22 سنة. والمفارقة أن أول شجرة زرعها منذ ذلك التاريخ ما زالت حية حتى اليوم.
يهرب من عالم السياسة المتعب إلى عالم الشتول والنباتات التي يواكبها منذ زرعها يوماً بعد يوم وسنة بعد سنة. يومياً يتفقدها صباحاً ومساء. إنها عالمه الذي يربيه كما يربي الأب أطفاله. لا يستغني عن احداها على الإطلاق. وفي جنينته في منطقة الحدث في ضاحية بيروت الجنوبية مئات من أشجار «البونزاي» التي تحمل بصماته.
لم تكن بدايات هذه الهواية بالأمر السهل. والوصول إلى ما وصل إليه جعله يتكبد كثيراً من العناء والصبر المصحوب بالمتعة، «فهذا الفن صعب جداً واتعبني كثيراً في البداية، وماتت بين يدي أصناف اشتريتها من الخارج بمبالغ طائلة».
يروي بداياته في هذه الهواية «ولدت في مكان تلفه حديقة واسعة، ومنذ صغري أحببت الطبيعة فكنت أتسلق الأشجار وأركض في الحقول. الطبيعة بالنسبة اليّ مكان للتنفس والراحة من التوتر اليومي. وفي أحد الأيام وقع بين يدي عدد قديم من مجلة Science et vie المشهورة يعود الى منتصف الثمانينات. تصفحته فلفتتني هواية أو ثقافة أو تراث اسمه «فن البونزاي» يجمع بين الزراعة وحسن الاعتناء بالشتول وكيفية حمايتها من الأمراض وإعطائها شكلها في مرحلة البلوغ. المفارقة ان عمر هذه الشجرة يكون صغيراً وكذلك حجمها، لكنها تحاكي الأشجار البالغة. أثار هذا الموضوع فضولي فاشتريت بعض المراجع وسافرت إلى الأماكن التي فيها معلمون لهذه الهواية، علماً انها تعني اليابانيين والأوروبيين والآسيويين والأميركيين».
المعلومات حول زراعة اشجار «البونزاي» باتت اليوم متوافرة ويمكن الحصول عليها عبر الانترنت بسهولة كما يقول ديب، مضيفاً أنه يتبادل وزملاءه الهواة الآراء حولها وكذلك بعض النصائح.
يحدد ديب هذا الفن كالآتي انه «اعتناء بالشجرة لكي تعمر. وفي اليابان يتوارثه الابناء عن الأجداد، ويبلغ عمر بعض الأشجار 800 سنة ما يعني أن أجيالاً اعتنت بهذه الشجرة وأورثتها لأولاد أولادها. الجميل في الأمر أن هذا الفن ينتج لوحة حية جميلة جداً يعرضها الإنسان في بيته أو حديقته أو على شرفته».
كلمة «بونزاي» تعني الشجر القزم. «وتقزيمها لا يعني تعذيبها بل الاهتمام بها لتنمو، لكن السر هو ابقاؤها في شكل هندسي مدروس جداً وطبيعي. كل هذه الأشجار يراوح طولها بين 20 سنتيمتراً و110 سنتم حداً أقصى لا يمكن تجاوزه، وإلا اصبحت شجرة عادية. والميزة الأخرى أنها توضع في وعاء من السيراميك مدروس بدوره. وهذه الأوعية موجودة في اليابان وأيضاً في الصين وثمنها مرتفع جداً وهي منحوتة في شكل يتلاءم مع الأشجار».
هذه الهواية بالنسبة اليه تهدئ من توتر الأعصاب لدى صاحبها وتمنحه الصبر، «وهذا ما استفدت منه في السياسة، خصوصاً في ظل الأجواء المتأزمة والحروب التي مرت على لبنان. هذه الهواية ساعدتني في تخطي هذه الأزمات. العديد من اللبنانيين يحبون تربية شجر البونزاي لكن معظمهم يجهل فن العناية بها. وكثيراً ما اصادف ضحايا عدم معرفة بهذا الفن. حاولت تأسيس ناد ولكنه لم يأخذ شكلاً جدياً. وثمة اتصالات بين من يمارسون هذا الفن».
من أين يحصل على هذه الشتول؟ «هناك مصادر عدة، فقد أجد نبتة ذات شكل معين في الحقل فأقتلعها واعتني بها. ومن المشاتل قد أشتري شجرة بونزاي. أما المصدر الثالث فيكمن في زراعة بذور شجرة. انها الطريقة الابطأ لكنها الافضل كونها تتيح السيطرة على شكل الشجرة وتربيتها. هذه الطرق الثلاث تقود إلى الحصول على شكل متناسق وجميل جداً».
ويروي «في إحدى المرات سألني شخص اذا كان يمكن أن أقدم أحد النماذج هدية له، فأجبته إذا اخترت ولداً من أولادي يكون أفضل».
من عشرات أشجار «البونزاي» التي شاهدناها لديه، لم يشتر أي شجرة بل جميعها من زرعه وتنميته. ويكشف أن الاكبر عمراً بينها تبلغ 22 سنة، اي من تاريخ بدء هذه الهواية لديه، ولها مناخها الخاص بحرارته ورطوبته كي تظل مرتاحة.
حين سجن ديب بسبب آرائه السياسية كلف أحد أفراد عائلته الاعتناء بالاشجار. «رغم ذلك، ارتكب أخطاء في تربيتها لأن هذا الامر يتطلب عناية يومية. أيام الحر الشديد تستدعي رياً يومياً وأحياناً مرتين. أول عمل أقوم به في الصباح هو تفقد أشجاري وريها وتبيان ما إذا كانت مصابة بأمراض لمعالجتها، والأمر نفسه في المساء. هذا واجب يومي يمنحني نفساً طويلاً وحباً للبيئة واحتراماً لها ولأشجارها».
ويشرح أن «أي نوع من الأشجار يمكن تحويله إلى بونزاي شرط أن يكون ورقه صغيراً وثمرته صغيرة كي تكون الشجرة متناسقة». ويفيد أن «البونزاي يعيش خارج المنزل وليس داخله. أما في أوروبا فيمكن أن يعيش داخل جدران المنزل لأن الطقس بارد جداً في الخارج».
العدّة التي يستعملها في القص والتشحيل يابانية الصنع. أما الخطوات الأساسية التي يجب القيام بها لإنجاح شجرة «البونزاي» فهي التشحيل والربط. في التشحيل يجب قص الأغصان بحيث تأخذ شكل المثلث أو الدائرة. والتشحيل له مواسمه خصوصاً حين تنام الطبيعة في لبنان أي في شهري فبراير ومارس. أما الامر الأساسي الآخر إلى جانب التشحيل فهو الربط بأسلاك حديد خاصة من اليابان وبسماكة متنوعة. «يكون أحد الأغصان عالياً مثلاً فاجعله منخفضاً عبر ربطه لمدة، وكذلك مع جذع الشجرة إذ أقوم بلفّه بالسلك وأوجهه وفق الشكل الذي اريد لمدة شهر، ثم أعمد إلى فكه. الربط هو وسيلة للحصول على الشكل المرغوب فيه. والأمر الثالث الأساسي في تنمية أشجار البونزاي يتصل بالجذور التي تنمو، إذ يُعمد إلى قص ثلثها ويضاف إلى الوعاء تراب جديد وغذاء جديد لأن الغذاء يستنفد مع الوقت».
النماذج التي تركن على شرفة منزله الأرضي تبلغ على الأقل 15 سنة. والجذع يدل على العمر. كل شكل له اسم ياباني. «هان كن جاي» مثلاً هو الشجر القريب من الشاطئ ويكون منحنياً لأن الهواء القوي يؤدي الى انحنائه. أما صنفه فيدعى «فيكوس». ومن الأسماء الأخرى «كنجاي» و«براكيكيتوم» التي تحتاج دائماً إلى تنظيف.
بصعوبة يقدم ديب إحدى أشجاره هدية «إلا تلك التي لا أكون قد تعلقت بها لأنها كالطفل الذي أربيه». في جنينته لديه أشجار «بونزاي» اثمرت تفاحاً وزيتوناً ولكن حجم الثمرة صغير كالشجرة نفسها لكي يكون ثمة تناسق. ويوضح أن شجر الأرز هو من أصعب الأشجار التي يمكن تقزيمها، «حتى اليوم لم أوفق في تربية شجرة أرز لأنه لا يمكن قص الجذور، فقصّها يؤدي إلى موت الشجرة. لكن اليابانيين قادرون على ذلك لأن لهم حنكتهم ومعرفتهم».
ويفيد ديب أن الامبراطور الياباني لا يستقبل زواره وضيوفه إلا بوجود أشجار «البونزاي». وهناك معرض سنوي لها يضم اشجاراً يبلغ ثمنها مئات آلاف الدولارات. ويروي «في إطار لقاء لهواة تربية البونزاي في فرنسا، التقيت شخصاً فرنسياً مهماً في هذا الميدان اسمه ريمي سامسون والمعلم الياباني الأكبر في تنمية الاشجار. وقد استغربا وجود شخص في لبنان يتابع هذه الهواية وعمدا الى إعطائي مقصاً لتسوية إحدى الاشجار حين تأكدا من خبرتي وتجربتي الطويلة. كما عددا لي أصناف الأشجار في لبنان التي تصلح لأن تكون قزمة».
ويختم أن «تنمية البونزاي فن قائم في ذاته، وعلى من يحترفه أن يكون ملماً بالهندسة والزراعة لأن الشجرة في حال أصيبت بمرض فعليه أن يعرف طريقة معالجتها، وإلا تعرضت لليباس والموت». ونصح من لا يملك الوقت اليومي لتكريسه لشجر البونزاي، بعدم خوض هذا الموضوع. «أشجار البونزاي جواهر نباتية حية. والشجرة التي يكون عمرها 15 سنة، يبلغ ثمنها خمسة أو ستة آلاف دولار. أما الأخرى المعمرة عشرات السنين فلا تقدر بثمن».