من التراث العربي / صورة من صور العشق... مجنون ليلى (2)
1 يناير 1970
09:10 ص
|محمد سعود المطيري|
نعود إلى ما انتهينا منه في المقال السابق، فالمجنون صح ما قيل عنه إنه مجنون، بل وإن ازداد الأمر سوءا معه فالتجأ إلى صحراء الجزيرة العربية يلتمس ما ألمّ به من علل وألم من فراق محبوبته، أو بالأحرى إبعاده عن حبيبته ليلى.
فاشتعل القلب حباً وعشقاً من فراقه لليلى، فأصبح ضيفاً للوديان والسهول والصحارى، ومرافقاً للوحوش والغربان، فلم يعد ذلك الفتى الجميل الذي يضرب به مناحي الجمال، بل أصبح هزيل الجسد طويل الشعر لا يتميز بأي ناحية من نواحي الجمال أبداً.
إن ما يتميز به مجنون ليلى قد يجعله من الشعراء القلائل الذين برزوا في تلك الفترة، فليس أصدق من المشاعر إن لم يخالطها أي تكلف في عباراته، فلن يتصنع كغيره من شعراء عصره في الفاظ وعبارات الغزل، وإنما برز بجنونه وهيامه بمحبوبته التي عشقها وأحبها.
فلما اشتد مرضه وعظم مصابه ووصل به إلى حد الجنون والهزل الجسد ، فما من أهله إلا أن قدموا إلى والد ليلى خاطبين، لما أصاب قيس من الهزل في الجسد وذهاب العقل، فيقدم على والد ليلى ما جادت نفسه من الإبل، ولكن اعتقاد الأب بأن ما يلحقه من الفضيحة والعار أنه أقدم على قبول زواج قيس من ليلى، فرفضه رفضاً قاطعاً، بل وأنه أصاب القلبين بمقتل وازداد قيسا بمرضه وجنونه. ففي الطرف الآخر يجبر والد ليلى ابنته على الزواج من رجل يقال له ورد، فجن قيس بعد أن علم لما جرى لمحبوبته، بعدما أجبرها والدها على الزواج رغماً عنها، فيرى زوج ليلى فينشد له:
بربك هل ضممت إليك ليلى
قُبيل الصبحِ أو قبلت فاها
وهل رفّت عليك قرون ليلى
رفيف الأقحوانة في نداها
فيجبه بنعم، فيقبض بكلتا يديه بجمرتين حتى يفقد الوعي، ويسقط مغشياً عليه فيعض على شفتيه فيقطعها، فما كان من ورد إلا أنه اندهش من فعلة ذاك المجنون الهائم بحب ليلى.
فاتخذ المجنون من الصحراء ملجأ له، والوحوش والغربان هم أصدقاؤه الذين يهذي بشعره إليهم، فزاد مرضه مرضاً، واشتد جنونه فلم يكن ذاك الفتى الجميل الذي كان مضرباً للأمثال، والذي كان يزهو بأروع الملابس، فهزل جسده حتى يخيل لعجوز أنه من الجن.
ومرض قبل الاختلاط فقلق قلقاً شديداً ودخل عليه جماعة أو هو أبوه للعيادة فسمعوه ينتحب بأشد تحرق وتوجع وينشد:
ألا أيها القلب الذي لج هائماً بليلى
وليداً لم تقطع تمائمه
أفق قد أفاق العاشقون وقد أبى لما
بك أن تلقى طبيباً تلائمه
فما لك مسلوب العزاء كأنما ترى
نأي ليلى مغرماً أنت غارمه
أجدك لا ينسيك ليلى ملمة تلم
ولا ينتسيك عهداً تقادمه
فاستتروا حتى أتم نشيده ودخلوا عليه فحادثوه في السلو فزاد في الهيام، ولما عوفي جعل يعاود موضعها ويتمرغ في التراب ويبكي إلى الليل وعزم على التوحش والخروج فراجع ابن عم له في ذلك فكان يعزم عليه ألا يفعل ويشاغله إلى أن بلغه أن ليلى دخلت إلى جارة لها فنفضت أثوابها واغتسلت ونظرت إلى نفسه وقالت ويح ابن الملوح لقد علق بي عظيماً على غير استحقاق فأنشدك الله أصادق هو في وصفي أم كاذب فقالت بل صادق ثم خرجت من عندها وعادت لأخذ سواك نسيته فلما صار في يدها قالت سقى الله من أعطانيه فقالت لها جارتها ومن أعطاكيه قالت قيس فخرج هائماً. وقيل إنما كان خروجه من نظره إليها يوم رحلها زوجها أو قومها حين بلغهم زيارته لها وكان حضوره يوم رحيلها على خفية رجاء أن يسكن ما به فزاغ واختشى قومه أن يفتضح فيقتل لما تقدم من أنه كان قد اهدر دمه إن دخل الحي وحذر فقال الموت أولى وخرج على وجهه.
لو تعلمين إذا ما غبت ما سقمي وكيف تسهر عيني لم تلوميني
ثم فارقته فهام من ثم مع الوحش، وقيل سئل عن سبب خروجه فقال لقيتها يوماً فشكيت إليها ما نزل بي من حبها وقلت إن لم ترحميني ذهب عقلي، فقالت هو المطلوب فهمت لمرادها وقيل كان هيمانه مقاصة لقوله:
قضاها لغيري وابتلاني بحبها
فهلا بشيء غير ليلى ابتلاينا.