نساء في التاريخ / أسماء بنت عميس

1 يناير 1970 12:54 م
تباشير المجد تعانق سقف السماء حاملة عبير الفرح... والقلوب المؤمنة تمتطي خيول العز مرتلة ومكبرة تغمرها نشوة النصر المبين... وخبير تحطم أسوارها وأبراجها المنيعة بأيدي يهودها الخونة، الذين ما فتئوا يحيكون المؤامرات ضد الإسلام وأهله، فكان يوم خيبر إيذاناً بزوال قوتهم وإمعانا في تأديبهم على يد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فاصدقهم وعده ومنحهم عزه ونصره، ليعود الجمع إلى طيبة الطيبة وقد امتلأت القلوب فرحا، واستشعرت النفوس أمنا بقوة الإسلام، وإذا بنبي الله صلى الله عليه وسلم يلاقي جعفر وزوجته أسماء بنت عُميس ومن معهم من مهاجري الحبشة الذين طالما ذاقوا نار الغربة وفراق الأحبة، لا يروي ظمأهم إلا ما أنعم الله عليه من إسلام النجاشي وبعض أهل الحبشة الطيبين.
فكانت فرحة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فرحتين أولهما بالنصر على يهود خيبر وثانيهما بعودة جعفر، لينعم المسلمون بعودة الغائبين واجتماع شمل الأحبة بعد فراق دام أكثر من عشر سنوات.
كانت أسماء بنت عُميس زوجة جعفر بن أبي طالب قد أسلمت قبل دخول النبي عليه الصلاة والسلام إلى دار الأرقم، فقدمت نموذجا للمرأة المؤمنة المهاجرة الصابرة على بعد الأحبة رغبة في مرضاة الله ورسوله، ولكنها بعد عودتها من الحبشة رغبت في زيارة حجرات أمهات المؤمنين لتنهل من معين النبوة باشتياق الظمآن إلى الماء العذب، فحدث أن زارت أسماء دار أم المؤمنين حفصة بنت عمر، فلقيها عمر بن الخطاب هناك... فقال لها مداعبا: آلحبشية هذه... آلبحرية هذه!!!
فردت أسماء: نعم...
فقال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم... لتسقط كلماته على نفسها سقوط السهم على قلب أغض، وهي تعلم ما لقيه المهاجرون في الحبشة من صعوبات وغربة وحنين للوطن وألم وخوف لم يعلم به غير الله سبحانه وتعالى... حتى ان كتب التاريخ لم توله اهتماما بالغا كما أولت حال المسلمين في مكة والمدينة.
لم تطق أسماء بنت عُميس أن يظن في مهاجري الحبشة أنهم أقل حقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم من غيرهم وهي تسمع هذه الكلمات من الفاروق عمر صاحب الحق وعدو الباطل دون سواه، فغضبت لا تبالي بعمر ولا بسواه، جاعلة سنوات الغربة منظارا أمام عينيها وأيام الفراق تسكن آهات قلبها بكل ما حملت من غضاضة وزفرات.
فردت عليه وقد تملكها الغضب: كلا والله... كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسول الله وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله... لتصمت الكلمات في جوف عمر وهو يرى صوت الحق يعلو في حروف أسماء مستعرا دفاعاً عن سنوات الغربة بالحبشة.
فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام قالت له: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما قلت؟ قالت: قلت كذا وكذا... قال: (ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم - أهل السفينة - هجرتان)... فعمت الفرحة قلوب العائدين من الحبشة بكلمات النبي عليه الصلاة والسلام وتهافتوا على دار أسماء بنت عُميس يسمعون منها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم... ودفاعها الصادق عن حقهم في وجه عمر... ليسطر التاريخ عن أسماء بنت عُميس قولاً أصابت فيه المرأة وأخطأ عمر... (من حديث البخاري رحمه الله تعالى).
وبعد أشهر من عودة مهاجري الحبشة ينطلق جيش المسلمين ليؤدب الغساسنة الذين لم يراعوا حرمة سفراء النبي عليه السلام... فكانت غزوة الأمراء في مؤتة ضد جحافل الروم وأعوانهم من الغساسنة... ليستشهد جعفر بن أبي طالب زوج أسماء بنت عُميس... وبعد انقضاء العدة تزوجت أسماء بنت عُميس من أبي بكر الصديق الذي عرف لها قدرها وقوة إيمانها فأكرمها أيما إكرام، فأنجبت له محمد بن أبي بكر، ثم مات عنها الصديق رضي الله عنه، فتزوجت من علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فكان أن احتضن علي في داره أبناء أسماء من جعفر وابنها من أبي بكر... ويروى ذات مرة أن سمع علي حواراً حاداً بين محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر، كل منهما يقول لصاحبه: أنا أكرم منك وأبي خير من أبيك!!!
فطلب منها علي بن أبي طالب أن تحكم بينهما... فقالت لهما: ما رأيت شاباً من العرب خيراً من جعفر وما رأيت كهلاً خيراً من أبي بكر... فقال لها علي بن أبي طالب: وماذا تركت لنا يا أسماء؟!... لترد عليه بثبات المرأة حين يهبها الله قدرة الحديث وحُسن الرد على الزوج (ثلاثة أنت شرهم لأخيار) وتقصد أي أمرحهم وأسعدهم لأهل بيته.
كانت أسماء من الصحابيات الراويات لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قيل: انها جمعت صحيفة بها ستين حديثا من أقوال رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويقول الدار قطني: إن مسلما قد انفرد بالاخراج لها.
هكذا كانت أسماء بنت عُميس الصحابية العابدة العالمة، والمرأة القوية في الحق التي أسكتت عمر، والزوجة الصالحة التي عرفت حق جعفر وفضل أبي بكر وعظمة زوجها الثالث علي بن أبي طالب... فحق لها أن تكون محبوبة من أزواجها جميعا، وحري بنا أن نتعلم منها حُسن الخطاب والمعاشرة وقوة الدفاع حين يستدعي الموقف رأي المرأة التي تصيب حين يخطئ الرجال... رضي الله عن أسماء وأزواجها جميعاً وأرضاهم.