رسائل المشاهير... في الحب والغرام
العقاد إلى «مي زيادة»: لا ينقصني من رؤيتك شيء... فإني أراك في غدوك ورواحك / 11
1 يناير 1970
12:52 م
| القاهرة - من خالد زكي |
الحب هو ذلك الشعور الخفي الذي يتجول في كل مكان، ويطوف الدنيا بحثا عن فرصته المنتظرة ليداعب الإحساس ويغازله، ويسحر العيون، ويتسلل بهدوء، ويستقر في غفلة من العقل، داخل تجاويف القلب، ليمتلك الروح والوجدان، ويسيطر على كيان الإنسان، ويزلزله زلزالا ويهزه بقوة.
الحب كالموت، لا يفرق بين صغير وكبير، وغني وفقير، الحب جمرة من نار، تنشر شظاياها في قلوب المحبين، فتكويهم بلوعة الشوق وألم الفراق... الحب هو تلاقي الأنفاس وتشابك النظرات. وتحليقها في سماء تخلو من الأحقاد والأضغان.
وقديما قال الشاعر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
قاصدا بذلك أن القلب الذي لا ينبض بالحب يشبه الصخر الذي لا حياة فيه ولا روح، والقلب الذي لا تحرقه لوعة الحب هو مجرد حجر أملس لا يعرف لغة المشاعر، والتاريخ يؤكد دائما وأيد أن الحب لم يفرق يوما بين شاب لاه وشيخ معمم، أو بين قائد عسكري يقود الجيوش وآخر يعيش في أبراج من الخيال والوهم.
والحب يخلق في القلوب رغما عن أصحابها... كما قال نزار قباني:
تلومني الدنيا إذا أحببته... كأنني أنا خلقت الحب واخترعته
وفي هذه الحلقات... نعرض جانبا من رسائل مشاهير السياسة والحرب والأدب والشعر لمن أحبوهم وتعلقوا بهم، وبادلوهم الغرام، لنرى كيف كان القائد الفرنسي نابليون بونابرت يكتب أجمل رسائل الحب إلى محبوباته، وكيف كان الرئيس جمال عبدالناصر يخاطب زوجته من ميدان القتال، وكيف امتلك قيادي إخواني متشدد قلبا كقلوب العاشقين الحيارى. وهذه الرسائل تكشف الوجه الآخر لهؤلاء المشاهير الذين لم يتمكنوا من إغلاق قلوبهم أمام أنواء الحب التي لا تبقي ولا تذر.
في حياة كبار الأدباء والمثقفين أكثر من قصة حب... كتب التاريخ أسطرها بأحرف من نور... وإذا كان الأديب فنانا وسيلته الكلمة وحجته المنطق، فإنه أيضا عابد من عباد الجمال... لا يمكن أن تستمر حياته من دون حب يملأ عليه حياته، ويكون دافعا لتقديم مزيد من الإبداع... ومن دون حب في حياة المفكرين والمثقفين لم نكن لنرى تلك الأعمال الإبداعية التي كانت ولاتزال شاهدة على تجاربهم ومثل الأديب في ذلك مثل الزهرة التي تحتاج إلى الماء كل يوم لتزيد نضارتها ويكتمل نموها.
الأديب المصري عباس محمود العقاد «1889 1964» يعد من أهم إن لم يكن أهم الأدباء المصريين في العصر الحديث، فقد اجتمع له ما لم يجتمع لغيره من المواهب والملكات، فهو كاتب كبير وشاعر لامع وناقد بصير ومؤرخ حصيف ولغوي بصير وسياسي حاذق وصحافي نابه، وعلى الرغم من هذا كله فإن مكانة العقاد وقيمته الثقافية وقامته الأدبية لم تمنعه من أن يكون لحواء دور وبصمات في حياته، كما كان لها مع غيره من الأدباء والمفكرين.
قلب رقيق
كُتب التاريخ تؤكد أن العقاد كانت نفسه تنطوي على قلب رقيق نابض بالحب، وأنه عاش أياما من حياته ذاق فيها طعم الهجر وقاسى خلالها من لوعة الحب.
قال العقاد الذي وضع نحو 102 كتاب في روايته «سارة»: «كانت شكوكا مريرة لا تغسل مرارتها كل أنهار الأرض وكل حلاوات الحياة، كانت كأنها جدران سجن مظلم ينطبق رويدا رويدا ولا يزال ينطبق وينطبق حتى لا منفس ولا مهرب ولا قرار، وكثيرا ما ينتزع ذلك السجن المظلم طبيعة الهرة اللئيمة في مداعبة الفريسة قبل التهامها فينفرج وينفرج حتى يتسع اتساع الفضاء بين الأرض والسماء ثم ينطبق دفعة واحدة حتى لا يمتد فيه طول ولا عرض ولا مكان للتحول والانحراف».
ألم وحيرة
ويستمر العقاد في وصف حال الشك التي اعترته خلال حبه لسارة فيبلغ الشأن في رسم الصورة وتصوير ذلك الإحساس حيث قال: «ألم لا نظير له في آلام النفوس والعقول، وحيرة لا تضارعها حيرة في الإحساس والتخمين، وأقرب ما كان يشبه به هذه الحيرة حال الأب المستريب الذي يشك في وليد منسوب إليه هل هو ابنه أم هو ابن غيره، هل هو رمز الحب والعطف والصدق والوفاء، أم هو رمز الخداع والخيانة والاستغفال والاحتقار، هل هو مخدوع في عطفه عليه أم هو مخدوع في نفوره منه؟ وكيف يفصل في هذين الخداعين؟ وكيف يطيق الصبر على واحد منها وكلاهما لا يطاق؟».
ويمكن القول إن المرأة التي دخلت قلب العقاد في بداية حياته امرأة مجهولة أو أكثر من امرأة مجهولة رآها في أسوان حيث ولد أو في الزقازيق أو الفيوم، حيث تنقل فيهما للعمل وبدأ رحلته في عالم الوظيفة شابا يافعا لم يتجاوز العشرين من عمره.
الحب الأهم
وعلى الرغم من كثرة العلاقات العاطفية وتجارب الحب التي مر بها العقاد خلال تلك الفترة إلا أن قصة حبة للأديبة المشهورة «ميّ زيادة» تبقى هي الأهم والأشهر بالنسبة للعقاد الذي عرف طريق الحب إلى ميّ، حينما كان يخطو نحو الثلاثين من عمره... وكان يومئذ أديبا شابا ناضجا وسيما يملأ اسمه عالم الصحافة والأدب، وكانت «ميّ» أديبة لامعة ومعروفة لدى الأوساط الثقافية والسياسية على السواء، وكانت في ذلك الوقت شابة متألقة وصفت نفسها في إحدى رسائلها لصديقاتها بقولها:
«أصحيح أنك لم تهتد إلى صورتي إذاً فها هي... استحضري فتاة سمراء كالبن أو كالتمر الهندي كما يقول الشعراء أو كالمسك كما يقول متيم العامرية، وضعي عليها طابعا سديميا فليسمح لي البلاغيون بهذا التعبير المتناقض من وجد وشوق وذهول وجوع فكري لا يكتفي وعطش روحي لا يرتوي، يرافق أولئك جميعا استعداد كبير للطرب والسرور واستعداد أكبر للشجن والألم وهذا هو الغالب دوما، بعد هذا أطلقي على هذا المجموع اسم «ميّ» ترى من يساجلك الساعة قلمها».
نغم منسجم
ووصفت السيدة هدى شعراوي تلك الأنثى «ميّ» بقولها: «كانت كل حاسة من حواسها أو جارحة من جوارحها تنم عن ذلك الذكاء... فعيناها اللامعتان وتعبيرها الحار ولطف إشارتها وحسن حديثها كل ذلك ينم على ذكائها كما ينم المسك على المسك، تستطيع أن تؤثر فيك بكلامها وتنقلك إلى صفها... وكان فيها إلى جانب علمها وفنها جوانب كثيرة وحواس رقيقة من اللطف والدعة واللين والرقة».
ووصفها أحد الأدباء الذين عرفوها بقوله: «إن ميّ في صورتها كانت مثل نغم ميلودي منسجم، كل لحن فيه على حدة يجود بصوت وفي ائتلافه نغم ملائكي واحد... كذلك كانت هيئة ميّ وملامحها، فعيناها تحيران بما فيهما من شعاع، وأنفها الأقنى الذي يمسك بعصا ناظم الجوقة يؤلف قسمات، وجهها الذي يحتل فيه الضم الوردي عطر أنوثتها وبسمة فنها».
وذكرت الأديبة السورية وداد سكاكيني وصفا لميّ في كتابها عنها قالت فيه: «كانت صورة وجهها تلوح وتتحرك بسر ترتبط به أغوار نفسها، وكانت هذه النفس مثل نبع كهربي يعطي النور وجهها الصبوح وفي الغواني الحسان وجوه تستهوي الأعين بجلودها وملامحها، كما تستهوي الصور المرسومة والتماثيل المنحوتة لفاتنات سابيات، لكن الجمال فيها منعزل عن باطنه الحي وسره المفقود».
امرأة بهذه المواصفات لم يكن مستغربا أن يقع العقاد أسيرا لحبها وجمالها الفتان، وأن يكتب لها أجمل الرسائل الغرامية والقصائد الغزلية التي تبارى في كتابتها إليها كثيرون غيره مثل لطفي السيد وأحمد شوقي ومصطفى صادق الرافعي وأشهرهم على الإطلاق جبران خليل جبران.
سهر الليالي
لكن العقاد تميز عن منافسيه في أن حب «ميّ» سيطر عليه وملأ عليه حياته فنظم في وصفها القصائد، وسهر الليالي يكتب لها رسائل الحب والغرام.
ولم يكن العقاد يختلف عن أصحابه في مغازلة تلك الأديبة اللامعة في رسائله الأولى إليها تلك التي كان يرسلها إليها بالبريد، وكان يلتقي بها بعد ذلك فلا يرى منها ما يدل على تلقيها رسالته أو ما يدل على أنه صنع شيئا فيضطر إلى مغازلتها فتقبل غزله بإيماءة من أصابعها كالمنذرة المتوعدة، ثم ينظر إلى عينيها ويطيل النظر إليهما، فتزداد حيرته لأنه لا يدري إن كانت تستزيده أم تنهره وتنهاه.
إلا أنه كان يعاود كتابة الرسائل إليها ويبث خلال سطورها الشوق والوجد والأمل، ويلتقي بها فتزداد حيرته وتساوره الشكوك شأن كل محب عاشق.
لاسيما حينما يكون سلوكه مع المحبوبة سلوك العقاد نفسه يقف حائرا بينه وبين نفسه لأنه لا يرى من محبوبته ما ينم عن استياء به لا يسمع منها ما يدل على وصول رسالته وإن كان يسمع الجواب باللحن والإيماء دون الإعراب والإفصاح... فقد كان العقاد وميّ يتناولان من الحب كل ما يتناوله العاشقان على مسرح التمثيل ولا يزيدان.
ورغم أن العقاد قد خلَّد جميع محبوباته بما كتبه عنهن، إلا أنه لم يكتب عن علاقاته بـ «ميّ» كتابا كاملا كما كتب عن محبوبته الثانية «سارة»، ورغم هذا كله ذكر علاقته بـ «ميّ» في أكثر من موضع وهو يروي قصة حبه «لسارة».
اعتراف بالحب
لقد اعترف العقاد بحبه لـ «ميّ» في أكثر من مناسبة وفي أكثر من مجال، فقد سُئل ذات مرة عن الحب في حياته فقال: «لقد أحببت في حياتي مرتين «سارة» و«ميّ»، ثم حدثه عن «ميّ» فقال له: كانت مثقفة قوية الحجة... تناقش وتهتم بتحرير المرأة وإعطائها حقوقها السياسية وكان اهتمامها موزعا بين العلم والأنوثة».
كانت سن العقاد يوم عرف طريقه إلى صالون تلك المحبوبة لا تتجاوز السابعة والعشرين، وكانت سنها هي يومذاك لا تتجاوز الحادية والعشرين، ولكن كليهما كان نجما ساطعا في شباب الأدباء والجيل المثقف الحديث.
ومع الأيام تقارب القلبان «قلب العقاد وقلب ميّ» فأخذت تخصه بصدق مشاعرها خلال سطور بعض رسائلها، حيث قالت له ذات مرة: «وقد أتعمد الخطأ لأفوز بسخطك عليّ فأتوب على يدك وامتثل لأمرك... في حضورك سأتحول عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك».
ويروي العقاد في قصة «سارة» أنه كان يتواعد مع «ميّ»، فيذهبان إلى السينما في مكان لا غبار عليه ويتحدثان بلسان بطل الرواية وبطلتها ويسهبان ما احتملت الكتابة الإسهاب ثم يغيران سياق الحديث في غير اقتضاب ولا ابتسار.
أسلوب غريب
وفي مرحلة من مراحل علاقة العقاد بميّ شغلته المعارك السياسية عن تلك المحبوبة، ولقد كانت معارك طاحنة شهدتها صفحات صحف الوفد والصحف الأخرى، وبلغت مقالات العقاد التي كتبها ضد عدلي وثروت وإسماعيل صدقي قسوة بالغة حتى حذره بعضهم من التمادي في ذلك... إلا أن هذه القسوة كان يقصدها العقاد ويتمسك باستمرارها في هجومه على خصوم الزعيم سعد زغلول من أجل «ميّ» لأنها كانت تسارع بالاتصال به تستعطفه لتخفيف تلك الحملات خوفا عليه من الاعتقال والنفي وهو ما كان يشعره بحبها له أكثر.
وقد روت الأديبة «جاذبية صدقي» في مقال لها عن العقاد: و«قد اعترف لي العقاد أنه كان يستخدم مع ميّ إذا ما تشاجرا طريقة واحدة لا يغيرها حتى تجيء إليه هارعة تستسمحه وتبدأه الحديث ويذوب الخصام... كان ينشر مقالا ملتهبا ثوريا يهاجم به الحكومة القائمة في اندفاع وتهور حتى تخشى عليه «ميّ» من الاعتقال والسجن فتهرع إليه وترتمي عند ركتبيه تقبل يده ضارعة وتستحلفه أن يكف عن مهاجمة الحكومة.
وأضاف العقاد وهو يهتز بفهفهة وعفرتة صبيانية «كم من مرة ظلمت إسماعيل صدقي وثروت لا لشيء إلا كي تجيئني «ميّ» تبدأ الحديث وتنهي الخصام».
كعبة روما
وقد ذهبت «ميّ» للحج في روما، لأنها كانت تعتنق المذهب الكاثوليكي، فبعث إليها العقاد برسالة اشتملت على قصيدة مكتوبة إليها جعل عنوانها «إلى ميّ في روما» قال لها في مطلعها:
آل روما لكموا منا الولاء.... وثناء عاطر بعد ثناء
وسلام كلما ضاء لنا... طالع الإصباح أو جن مساء
في حماكم كعبة ترمقها... مهج منا وآمال ظماء
تلقت ميّ هذه الأبيات فوجدت في نفسها الشعور العميق نفسه الذي تشعر به نحوه، فبعثت إليه برسالة صريحة عبرت فيها عما تشعر به من حب وهيام ختمتها بقولها:
«لقد أعجبتني أبياتك وأبكتني»
وعلى الورق كتب إليها العقاد رسالة مطولة قال في بعضها:
«سيدتي الآنسة ميّ... شكرك لي على الأبيات التي تفضلت بقبولها نعمة من السماء وابتسامة في فم الحياة أتمنى لك من السعادة بقدر ما بعثته في نفسي وبثته في جوانب قلبي، ولست بخيلا بالدعاء لو تعلمين حتى أتمنى لك «بقدر» ما شعرت به ولا أزيد.
بعد أن قرأت خطابك وددت لو أنك كنت أكثر عنادا مما أردت، فإني كنت أقرأ كلماتك وسطورك وأخشى أن تنتهي وأود أن تطول إلى غير نهاية، ولكنها انتهت ورأيتك لسوء حظي قليلة العناد في هذا الموقف، فهل تكونين كذلك في كل حين.
وأني أبصرك الساعة بين الماء والسماء فأشعر بوجود الله حقا وأحس بمحضره قريبا، لأنني لا أستطيع أن أعرف قوة غيره تحمل ذلك المهد السابح الذي أتمثلك فيه طفلة وادعة في أحضان ذلك الحنان السرمدي بل اني أكاد أراك رأي العين في غدوك ورواحك ويقظتك ونومك واجتماعك وانفرادك بماذا أقول اني لا ينقصني من رؤيتك شيء».
دور خطير
أما الأديب عبد الفتاح الديدي فقال عن علاقة العقاد بميّ: «يبدو أن هذه الفتاة لعبت أخطر دور في حياة العقاد، لأنها أعطته من السعادة ما لم يكن يخطر على بال، ولكنها وقفت أمامه ندا لند وناوأت رجولته وسطوته وكبرياءه، وصدمت أحلام العقاد باستقلالها وشبابها المتأنق المدرك لأصول العلاقات، فقال فيها: «لا أنا أعمى فأستريح ولا أنت من الحسن والصبا عاطل... بأي معنى عليك لا تعلق العين وأنت المبرأة الكاملة بوجهك الغض أم بقامتك الهيفاء».