رسائل المشاهير... في الحب والغرام
من غسان كنفاني إلى غادة السمان: مأساتي ومأساتك / 2
1 يناير 1970
01:59 م
| القاهرة - من خالد زكي |
الحب هو ذلك الشعور الخفي الذي يتجول في كل مكان، ويطوف الدنيا بحثا عن فرصته المنتظرة ليداعب الإحساس ويغازله، ويسحر العيون، ويتسلل بهدوء، ويستقر في غفلة من العقل، داخل تجاويف القلب، ليمتلك الروح والوجدان، ويسيطر على كيان الإنسان، ويزلزله زلزالا ويهزه بقوة.
الحب كالموت، لا يفرق بين صغير وكبير، وغني وفقير، الحب جمرة من نار، تنشر شظاياها في قلوب المحبين، فتكويهم بلوعة الشوق وألم الفراق... الحب هو تلاقي الأنفاس وتشابك النظرات. وتحليقها في سماء تخلو من الأحقاد والأضغان.
وقديما قال الشاعر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
قاصدا بذلك أن القلب الذي لا ينبض بالحب يشبه الصخر الذي لا حياة فيه ولا روح، والقلب الذي لا تحرقه لوعة الحب هو مجرد حجر أملس لا يعرف لغة المشاعر، والتاريخ يؤكد دائما وأيد أن الحب لم يفرق يوما بين شاب لاه وشيخ معمم، أو بين قائد عسكري يقود الجيوش وآخر يعيش في أبراج من الخيال والوهم.
والحب يخلق في القلوب رغما عن أصحابها... كما قال نزار قباني:
تلومني الدنيا إذا أحببته... كأنني أنا خلقت الحب واخترعته
وفي هذه الحلقات... نعرض جانبا من رسائل مشاهير السياسة والحرب والأدب والشعر لمن أحبوهم وتعلقوا بهم، وبادلوهم الغرام، لنرى كيف كان القائد الفرنسي نابليون بونابرت يكتب أجمل رسائل الحب إلى محبوباته، وكيف كان الرئيس جمال عبدالناصر يخاطب زوجته من ميدان القتال، وكيف امتلك قيادي إخواني متشدد قلبا كقلوب العاشقين الحيارى. وهذه الرسائل تكشف الوجه الآخر لهؤلاء المشاهير الذين لم يتمكنوا من إغلاق قلوبهم أمام أنواء الحب التي لا تبقي ولا تذر.
كان الروائي الفلسطيني غسان كنفاني... يعرف الأديبة السورية غادة السمان... مجرد معرفة عابرة في جامعة دمشق ويقال إنهما التقيا بعد ذلك في القاهرة في إحدى الحفلات الساهرة.
وفي تلك الليلة قال لها غسان: مالكِ كطفلة ريفية تدخل المدينة أول مرة؟ ومن هذة الليلة والصلة توثقت بينهما في كل من مصر ولبنان والكويت وعاشا علاقة حب عاصفة، وكانت الرسائل المتبادلة بين الطرفين ثمرة هذه العلاقة والتي رأينا فيها رسائل غسان إلى غادة السمان، وعن هذه العلاقة تقول غادة السمان قريبة الصلة بالشاعر السوري الأشهر نزار قباني.
«نعم كان ثمة رجل اسمه غسان كنفاني... وكان له وجه طفل، وجسد عجوز، عينان من عسل وغمازة جذلة لطفل مشاكس هارب من مدرسة الببغاوات وجسد نحيل هش كالمركب المنخور عليه أن يعالجه بإبر الأنسولين كي لا يتهاوى فجأة تحت ضربات مرض السكري... هدية الطفولة لطفل حرم من وطنه دونما ذنب، لم يكن فيه من الخارج ما يشبه صورة البطل التقليدية: قامة فارغة... صوت جهوري زجاجي، لا مبالاة بالنساء «إلى آخر عدة النضال».
لأنه كان ببساطة بطلا حقيقيا والأبطال الحقيقيون يشبهون الرجال العاديين رقّة وحزنا لا نجوم السينما الهوليودية الملحمية... غير العادي في غسان تلك الروح المتحدية، النار الداخلية المشتعلة المصرة على مقاومة كل شيء وانتزاع الحياة من بين منقار رخّ القدر، نار من شجاعة تتحدّى كل شيء حتى الموت...».
وتضيف: نعم كان ثمة رجل اسمه غسان كنفاني، جسده المهترئ بالنقرس لا يرسمه جيدا ولا يعبّر عنه... ولكنه حر يفعل ذلك بإتقان... وحين أقرأ رسائله بعد عقدين من الزمن أستعيده حيّا... ويطلع من حروفه كما يطلع الجني من القمقم حارا ومرحا في صوته الريح... يقر باب ذاكرتي ويدخل بأصابعه المصفرة بالنيكوتين وأوراقه وإبرة «أنسولينه» وصخبه المرح، ويجرّني من يدي لنتسكع معا تحت المطر، ونجلس في المقاهي مع الأصدقاء ونتبادل الموت والحياة بلا أقنعة ...ونتبادل الرسائل أيضا.
أول رسالة
وفي أول رسالة كتبها غسان ـ الذي عاش في الفترة بين 1936 - 1972 ـ إلى غادة قال فيها: «غادة... أعرف أن الكثيرين كتبوا لكِ، وأعرف أن الكلمات المكتوبة تخفي عادة حقيقة الأشياء خصوصا إذا كانت تعاش وتحسّ وتنزف على الصورة الكثيفة النادرة التي عشناها في الأسبوعين الماضيين... ورغم ذلك فحين أمسكت هذه الورقة لأكتب كنت أعرف أن شيئا واحدا فقط أستطيع أن أقوله وأنا واثق من صدقه وعمقه وكثافته وربما ملاحقته ، التي يخيل إلى الآن أنها كانت شيئا محتوما وستظل كالأقدار التي صنعتنا.
إني أحبك الآن أحسها عميقة أكثر من أي وقت مضى، وقبل لحظة واحدة فقط مررت بأقسى ما يمكن لرجل مثلي أن يمر فيه، وبدت لي تعاستي كلها مجرد معبر مزيف لهذه التعاسة التي ذقتها في لحظة كبريق النصل في اللحم الكثيف. الآن أحسها، هذه الكلمة التي وسّخوها كما قلتِ لي والتي شعرت بأن عليّ أن أبذل كل ما في طاقة الرجل أن يبذل كي لا أوسخها بدوري».
ويتابع في الرسالة نفسها قائلا: «إني أحبكِ... أحسها وأنا أتذكر أنني أيضا لم أنم أمس، وأنني فوجئت وأنا أنتظر الشروق على شرفة بيتي أنني أنا الذي قاومت الدموع ذات يوم زجرتها حين كنت أجلد أبكي بحرقة، بمرارة لم أعرفها حتي أيام الجوع الحقيقي بملوحة البحار كلها وبغربة كل الموتى الذين لا يستطيعون فعل أي شيء وتساءلت: أكان نشيجا هذا الذي أسمعه أم سلخ السياط وهي تهوي من الداخل؟
«لا ... أنت تعرفين أنني رجل لا أنسي. وأنا أعرف منك بالجحيم الذي يطوّق حياتي من كل جانب وبالجنة التي لا أستطيع أن أكرهها وبالحريق الذي يشتعل في عروقي، وبالصخرة التي كتب عليّ أن أجرّها وتجرني إلى حيث لا يدري أحد وأنا أعرف منكِ أيضا بأنها حياتي أنا، وأنها تتسرب من بين أصابعي أنا، وبأن حبكِ يستحق أن يعيش الإنسان له، أنا لا أريد منكِ شيئا وحين تتحدثين عن توزيع الانتصارات يتبادر إلى ذهني أن كل انتصارات العالم إنما وُزّعت من فوق جثث، أنا لا أريد منكِ شيئا ولا أريد بنفس المقدار أبدا أبدا أن أفقدك، إن المسافة التي ستسافرينها لن تحجبك عني، لقد بنينا أشياء كثيرة معا لا يمكن، بعد، أن تغيبها المسافات ولا أن تهدمها القطيعة لأنها بنيت على أساس من الصدق لا يتطرق إليه التزعزع... ولكن إذا كان هذا ما تريدينه فقولي لي إن أغّيب أنا. ظلّي هنا أنتِ فأنا الذي تعوّدت أن أحمل حقيبتي الصغيرة وأمضي. ولكني هذه المرة سأمضي وأنا أعرف أنني أحبك وسأظل أنزف كلما هبت الريح على الأشياء العزيزة التي بنيناها معا».
ليست عسلا
الغريب أن العلاقة بين الروائية الشهيرة غادة والمناضل الفلسطيني غسان لم تكن عسلا صافيا إنما شابتها أمور كثيرة، أخذ ورد، غضب ورضي، وغادة كما يبدو وكما تقول الرسائل كادت تشيح بوجهها وربما كان الدلال النسائي وراء هذا الصدود، انعكس هذا الجفاء على نفسية غسان المحب الصادق وبدا هذا واضحا في رسائله إلى غادة. كتب إلى غادة يوم 24 / 1 / 1967 قائلا:
«غادة... يا حياتي!....
أنتِ ، بعد، لا تريدين أخذي، تخافين مني أو من نفسكِ أو من الناس أو من المستقبل لست أدري ولا يعنيني أنك لا تريدين أخذي، وأن أصابعك قريبة مني تحوطني من كل جانب، كأصابع طفل صغير حول نحلة ملونة... تريدها وتخشاها ولا تطلقها ولا تمسكها ولكنها تنبض معا....
أعرف أعرف حتى الجنون قيمتك عندي، أعرفها أكثر وأنت غائبة وأمس رأيت - عمارات الروشة صدقيني عارية مثل أشجار سلخها الصقيع في البراري تطن عروقها الرفيعة في وجه السماء، إنها السياط.... بدونك لا شيء، وهذا يحدث معي لأول مرة في عمري التعيس كله.
وفي الرسالة نفسها يسألها: «لماذا أنتِ معي هكذا؟ إنني أفكر فيك ليل نهار، أحيانا أقول إنني سأخلصكِ مني ويكون قراري مثل قرار الذي يريد أن يقذف نفسه في الهواء، أحيانا أقول إنني سأتجلد، إنني - كما توحين لي أحيانا، أريد أن أدافع وأهاجم وأغير أسلوبي، أحيانا أراك: أدخل إلى بيتك فوق حطام الباب وأضمك إلى الأبد بين ذراعيّ حتى تتكونا من جديد، عظما ولحما ودما، بحجم خاصرتك، ولكنني في أعماقي أعرف أن هذا لن يحدث وأنني حين أراكِ سأتكوم أمامك مثل قط أليفٍ يرتعش من الخوف... فلماذا أنت معي هكذا؟ أنت تعرفين أنني أتعذب وأنني لا أعرف ماذا أريد. تعرفين أنني أغار، وأحترق وأتعذب، تعرفين أنني حائر وأنني غارق في ألف شوكة برية... تعرفين... ورغم ذلك فأنتِ فوق ذلك كله تحوليني أحيانا إلى مجرد تافه آخر، تصغرين ذلك النبض القاتل الذي يهزني كالقصبة معك وبدونك.
ساقط في الخيبة
ويستطرد قائلا: «يقولون هذه الأيام في بيروت، وربما أماكن أخرى، إن علاقتنا هي علاقة من طرف واحد، وأنني ساقط في الخيبة، وقيل أيضا إنني سأتعب ذات يوم من لعقِ حذائك البعيد، يقال إنك لا تكترثين بي وأنك حاولت أن تتخلصي مني ولكنني كنت ملحاحا كالعلق. يشفقون عليّ أمامي. ويسخرون مني ورائي، ويقرأون لي كما يقرأون نماذج للشاعر المجنون.... ولكن ذلك كله يظل تحت ما أشعره حقا، فأنا أحبك بهذه البساطة والمواصلة التي لا يمكن فهمها في شارع الحمراء ولا شفاه التافهين».
وكتب غسان إلى حبيبته يوم 11 / 4 / 1967 «لقد وقع الأمر، ولا فرار. العذاب معك له طعم غير طعم العذاب دونك، ولكنه دائما عذاب جارح، صهوة تستعصي على الترويض... إنني أكره ما يذكرني بك، لأنه ينكأ جراحا أعلم أن شيئا لن يرتقها. أنا لا أستطيع أن أجلس فأرتق جراحي مثلما يرتق الناس قمصانهم... ويالكثرة الأشياء التي تذكرني بك: الشعر الأسود حين يلوح وراء أي منعطف يمزع جلدي، النظارات السوداء لاتزال تجرحني.
أذكرك طالما أنا أنا... وحين أنظر إلى كفيّ أحسّك تسيلين في أعصابي... وحين تمطر أذكرك أذكرك، وحين ترعد أسأل: من معها؟ وحين أري كأسا أقول: هي تشرب؟ ثم ماذا؟
وإذا كان عليّ أن أناضل من أجل أن أسترد الأرض فقولي لي، أنت أيتها الجنية التي تحيك كل ليلة كوابيسي التي لا تحتمل... كيف أستردك...
إنني على عتبة جنون ولكنني أعرف قبل أي إنسان آخر أن وجودك معي جنون آخر له طعم اللذة ولكنه لأنك أنت التي لا يمكن أن تصلح في قالب أريده أنا جنون تنتهي حافته إلى الموت».
أحاول نسيانك
وبعد الرسالة السابقة وبعد عام كامل كتب إليها يوم 25 / 8 / 1968 يقول:
«عزيزتي غادة... أراكِ دائما أمامي، أشتاقكِ، أعذب نفسي بأن أحاول نسيانك فأغرسك أكثر في تربة صارت كالحقول التي يزرعون فيها الحشيش...
مأساتي ومأساتك أنني أحبك بصورة أكبر من أن أخفيها وأعمق من أن تطمريها.
«كيف لم تطبق كفاي عليك مثلما يطبق شراع في بحر التيه على حفنة ريح؟ كيف لم أذوبك في حبري.؟ كيف لم أجعل من لهاثينا معا زورقنا الواحد إلى نبض الحياة الحقيقي؟ كيف ذهبت دون أن أحس بك؟ كيف مرت عيناك في عمري دون أن تتركنا على وجهي بصماتهما؟ كيف لم أتمسك بك؟. كيف تركتك يا هوائي وخبزي ونهاري الضحوك تمضين؟ عشت معكِ حقيقة عمري، ضعت فيك إلى حد لم أصدق أنه قد تمضين، كان ذلك مثل المستحيل ولكنكِ ذات صباح غبتِ كما لو أن شروقك في جبيني لم يكن.
ماذا أقول لك؟ إن النسيان هو أحسن دواء اخترعه البشر في رحلتهم المريرة، ومع ذلك فأنا لن أنساك، أنتِ تخفقين في رأسي مثل جناحي عصفور طليق أمام بصري ينتشر ريش الطائر الذي حط وطار مثل لمح البصر.
وها أنذا متروك هنا كشيء على رصيف انتظار طويل، يخفق في بدني توق لأراك وندم لأنني تركتكِ تذهبين، أشرع كفيّ اللتين لم تعرفا منذ تركتك، غير الظمأ أقول تعالي».
حزن وحسرة
ويمكن أن تكون الرسالة التي كتبها غسان، الذي اغتالته المخابرات الإسرائيلية في 8 يوليو 1972 إلى أخته فائزة وسلّمها إلى غادة تحليلا كتبه غسان لعنف العلاقة بينه وبينها، علاقة فيها الألم والحزن والحسرة وجاءت الرسالة كما العلاقة حملت سطورها حزن وحسرة العلاقة، يعترف غسان في الرسالة أنها تحبه: «ولكن ليس كما أحبها، ولكنها تحبني، إنها تردد دائما، أنها ضدي؛ إنها تهرب مني في وقت لا أكف فيه عن الاندفاع نحوها ... إنني أدفع معها ثمن تفاهة الآخرين... أمس صعقتني مثلا حين قلت لها إنني أرغب في رؤيتها فصاحت: أتحسبني بنت شارع؟ كانت ترد على غيري، وكنت أعرف ذلك ولكن ما هو ذنبي؟ إنني أتمزق مثلما لم يحدث لي في حياتي أبدا ولا شيء كان قدرا عليّ. هزّي بلا هوادة أكثر من هذه المرأة التي أحبها وفي سبيل ذلك ارتكبت حماقة أخرى لا يد لي به... يا فائزة ليس لديّ أية علاقة جنسية مع أي كان... هل تفهمين إنني رجل مأساتي هي في ذلك التوافق غير البشري بين جسدي وعقلي».
أنا مجنون
وفي الرسالة نفسها يقول: «إنني مجنون، وهذا شيء حقيقي حين كتبت لك الصفحات السابقة كنت أيضا على بعد خطوات منها في المقهى المجاور وسيارتي إلى جانب سيارتها، ومثلما حدث وتوقعت لم تكترث، وذهبت، وكنت أشرب كأسا مع كل صفحة حتى صار الليل، وفتك الكحول بكتفي فلم يعد بوسعي أن أحرك ذراعي وقدت السيارة في المطر والغبش والذهول. بهدوء لم يكن عندي في حياتي، وقررت ألا أرى أحدا، لم أفكر بالموت. فكرت بالتعاسة».
اعتراف بالحب
وتعترف غادة في بداية رسائلها إلى غسان بأنها كانت تبادله الرسائل وتقول «أنتهز الفرصة لأوجه النداء إلى من رسائلي بحوزته. نداء أشارككم فيه محبة غسان وأرجوكم جعل حلم نشر رسائلنا معا كي لا تصدر رسائل غسان وحدها حاملة أحد وجوه الحقيقة فقط بدلا من وجهيها، وأنا والحق يقال لا أدري أين رسائلي إليه».
وقد كتبت غادة ذات يوم في كُتيّب معنون باسم (ذكريات عن الشهيد كامل ناصر»: «تقول إنها سألته أي غسان أن تنشر رسائل له مليئة بمعلومات سياسية تهم العرب لكن الفكرة لم ترق ورد عليها ساخرا: لا تسأليني إن كان باستطاعتك أن تنشري بعض ما أكتبه لكِ من أحاسيس عامة وخاصة... وأنا أقول إني لم أدرك وأنا أفيض لكِ أن هناك ثمة ما يستحق أن ينشر أو يذاع «بقع الدم التي تلطخ بعض أحرفي بين الفينة والفينة أبقيتها جسرا يعبر عليه من أحبهم من أصدقائي بين الحين والحين» وإن كنت تصرين على إطرائي فاحتفظي برسائلي هذه فقد أصبح مشهورا يوما ما مثل «فريد الأطرش» فتبييض رسائلي لمصلحة جمعية خيرية كما فعلوا بمذكرات «شكوكو» عام 1963، وتقول أيضا «كم تبدو النكتة الآن موجعة... ها أنا ألملم رسائله ورسائل أحبائي الذين تساقطوا قبله سميرة عزام وغسان كنفاني... أكومها وأحرقها ورقة ورقة وأرى سطورها تتلاشي في النار وتحفر كوشم من حجر في قلبي».
ويبدو أنها نفذت وصية غسان وأوصت بريع رسائله لمؤسسته الثقافية وأبدت أسفها في مقدمة الرسائل لاحتراق بعضها يوم احترق بيتها في بيروت خلال الحرب مطلع عام 1976.
الغريب أنه لم تكد تمر أيام قليلة على صدور رسائل غسان إلى غادة حتى شحذ المهتمون بأمور الثقافة وما سمتهم غادة رجال النضال شحذوا الهمم وشهروا سيوفهم لتنفيذ حكم الإعدام بغادة - فهي الإغواء الأخير الذي شوّه النضال والمناضل وكشف أسرارا ينبغي ألا يعرفها أحد، فهذا الشخص الذي تخصه ليس من لحم ودم إنما من نور ونار، وحتى غسان لم يخلُ من التعرض إلى لومهم واعتبار علاقته بغادة عائقا أمام إبداعه ونضاله، وإلا فكيف تكون له علاقة غرامية مع امرأة مثل غادة السمان - المرأة التي لا تحفظ الأسرار - ولم يكتفوا بذلك بل لقد ذهب بعضهم إلى ربط نشر الرسائل بتحولات سياسة العالم وبقضايا النظام العالمي الجديد وربما كانت مؤامرة على غسان الذي يمثل نضال العرب جميعا.
وكانت غادة السمان أحدثت ضجة كبرى في الأوساط الأدبية السياسية في العام 1993 عندما نشرت مجموعة رسائل عاطفية كتبها لها غسان كنفاني في ستينات القرن الماضي. حيث جمعتهما علاقة عاطفية لم تكن سرا آنذاك، واتهمت غادة في إثر ذلك بأن نشرها في هذا التوقيت جزء من المؤامرة على القضية الفلسطينية التي كانت تواجه مأزق أوسلو وقتذاك، وتقيم غادة في باريس منذ أواسط الثمانينات وتكتب أسبوعيا في مجلة عربية تصدر من لندن.