جاسم بودي / الرأي اليوم / كي تبقى الدنيا ... بصرة !

1 يناير 1970 05:38 م

للكويتيين مع البصرة تحديدا تاريخ طويل من العلاقات، ليس لقربها من الحدود الشمالية فحسب وانما للتشابك والاختلاط المجتمعي والأسري والتجاري. نتحدث هنا عن التاريخ لا عن السياسة. عن المصاهرات والتجارة وتملك الأراضي والمنازل والرحلات والسفر والإقامة، ودائما دائما كانت البصرة أقرب إلى الكويت في الهم العراقي العام كونها على مرمى البصر.

وتشاء الأقدار ان تكون البصرة اليوم ميزانا لاستقرار العراق بعد قرار البريطانيين الانسحاب من المدينة وتسليم مقاليد الأمن والسيادة فيها إلى أهلها من خلال ممثليهم في مجلس المحافظة خصوصا والسلطة العراقية عموما. الامتحان صعب ولا نغالي في القول ان مستقبل العراق يتوقف على تجربة البصرة فان نجح البصراويون في تقديم نموذج متحضر للحكم استقام الوضع السياسي العراقي وان فشلوا سينهار.

هنا البصرة. ثاني أكبر مدينة عراقية. منطقة النفط والخير والزرع والميناء الوحيد. الملاصقة جغرافيا لإيران الدولة الإقليمية الكبيرة في المنطقة.

مجلس محافظة هذه المدينة تتقاسمه قوى فيما تنتشر على الأرض قوة أخرى أساسية، فان استطاعت هذه القوى مجتمعة ان تقلص أذرعها العسكرية لمصلحة القوى الأمنية الرسمية التي يبلغ تعدادها تقريبا 30 ألف رجل الآن تكون وضعت الحجر الأساس لإنهاء ظاهرة الميليشيات المذهبية وألغت مشاريعها الخاصة لمصلحة مشروع الدولة. نقول ذلك معترفين لبعض هذه القوى انها بدأت فعلا خطوات أساسية على طريق حل الميليشيات يتمنى العراقيون ان تستكمل.

بعد هذا الاستحقاق الأول، يجب ان تثبت البصرة انها قادرة على تفعيل العملية السياسية من خلال الاتفاق على انتخابات جديدة لمجلس المحافظة تنتقل بموجبه الصراعات من الشارع الى الديموقراطية، على ان تختفي نهائيا مظاهر الملثمين وزوار الفجر وحوادث القتل والتعرض للنساء غير المحجبات أو للرجال الذين يتبعون طريقة مذهبية معينة. بمعنى ادق، الامن للقوات الرسمية فقط، والقانون يطبق على الجميع، والتعايش السياسي يجب ان يسود بين فصائل تنتمي في غالبيتها تقريبا الى مذهب واحد لان عدم حصول ذلك معناه استحالة التعايش بين قوى سياسية من ألوان مذهبية وعرقية مختلفة.

وبين الاستحقاقين الأمني والسياسي لابد من استحقاق اقتصادي رئيسي يتمثل في اعادة صياغة طريقة التعامل مع إنتاج النفط وتصديره والتصرف بعائداته، خصوصا بعدما كثرت الملاحظات والاتهامات بوجود خلل في شرايين الاقتصاد العراقي.

وبعد الاستحقاقات الامنية والسياسية والاقتصادية، لا بد من رصد مسارين متلازمين: التعامل مع ايران والتقارب مع بغداد، فأهل البصرة عراقيون ومصلحة بلادهم تأتي في الدرجة الأولى وهم يحرصون على التعامل والتعاون مع ايران بما يمليه عليهم ذلك من حسن جوار ومصالح مشتركة ضمن السيادة العراقية التي يفترض ألا يتنازل عنها أحد، فالصداقة صداقة والتعاون تعاون والعلاقة علاقة انما بين كيان اسمه ايران وكيان آخر اسمه العراق له حدوده التي يجب ان تصان وله قوانينه التي يجب ان تحترم وله خطته في نزع سلاح الميليشيات وعدم رفدها بعناصر جديدة من خارج الحدود.

أما التقارب مع بغداد فوطني بامتياز، لان العلاقة مع القلب تعطي حصانة للجسد كله لا لجزء منه، وكلما كانت العاصمة مركز القرار العادل انتعشت المناطق والمدن الاخرى. نقول القرار العادل لان ظلما تاريخيا لحق بمحافظات الجنوب العراقي التسع على أيام الحكم السابق لا ينكره سوى متعصب او جاهل. فهذه المحافظات هي الاغنى بالموارد ومع ذلك لم تحصل إلا على النزر القليل منها إنمائيا وماليا. ويعلم ابناء هذه المناطق ان مناطق اخرى ايضا حرمت من توزيع الثروات رغم ان مواطنيها من المذهب السني لانها لم تكن تحظى برضا الرئيس السابق.

التعامل مع ايران والتقارب مع بغداد هي المسألة الاساسية في الرد على سؤال: «البصرة بعد رحيل البريطانيين؟» خصوصا اذا دققنا في مشاريع التوزيعة الفيديرالية التي كثر السجال حولها، فمن قائل بالمحافظات الجنوبية كلها فيديرالية وعاصمتها النجف، ومن قائل بثلاث فقط، ومن قائل بمحافظة البصرة وحدها. العراق الجديد يولد بالتأكيد من نتيجة هذا السجال، وهي النتيجة التي يجب ان تسبقها وتمهد لها سلسلة الاجراءات الكفيلة ببناء الثقة بين البصراويين انفسهم ثم بينهم وبين بقية المحافظات الجنوبية ثم بين الجنوب وقلب العراق بغداد العاصمة – الرمز لوحدة البلاد من شمالها الى جنوبها.

مستقبل البصرة بعد رحيل البريطانيين يحدد مستقبل العراق. والكويتيون المتابعون لهذا الرحيل يأملون ان تجتاز البصرة امتحان الاستقلال والسيادة والامن والاستقرار. فالنجاح على مرمى البصر... والفشل كذلك.


جاسم بودي