أماكن / أسبلة الرحمة

1 يناير 1970 12:57 ص
| جمال الغيطاني |
لا تشير المصادر التاريخية المتاحة لنا حتى الآن... الى وجود الأسبلة قبل العصر المملوكي، انما يحدثنا المقريزي في خططه عن آبار وصهاريج للمياه أيضا كعمل من أعمال الخير، من أقدم الآبار التي يرد ذكرها في الخطط «بئر الوطاويط»، أنشأها الوزير أبوالفضل جعفر بن الفضل بن جعفر بن الفرات، المعروف بـ «ابن خترابة» لينقل منها الماء الى السبع سقايات التي أنشأها وأوقفها لجميع المسلمين، والوثيقة المتعلقة بهذه البئر، تعتبر أقدم وثيقة وردت في جميع المصادر والآثار تتصل بتقديم المياه، ويرجع تاريخها الى سنة 355 هـ، يقول النص:
بسم الله الرحمن الرحيم... «فلله الأمر من قبل وبعد وله الشكر وله الحمد ومنه المن على عبده جعفر بن الفضل بن جعفر بن الفرات وما وفقه له من البناء لهذه البئر وجريانها الى السبع سقايات التي أنشأها وحبسها لجميع المسلمين وحبسه وسبله وقفا مؤبدا لا يحل تغييره ولا العدول بشيء من مائه ولا ينقل ولا يبطل ولا يساق الا الى حيث مجراه الى السقايات المسبلة، فمن بدله بعدما سمعه فانما اثمه على الذين يبدلونه ان الله سميع عليم، وذلك في سنة خمس وخمسين وثلاثمئة، وصلى الله على نبيه محمد وآله وسلم».
ومع الزمن خربت السقايات، وأهملت البئر وسكنتها الوطاويط، وعرفت البئر بهذا الاسم، ثم عمّر المكان وسكنه الناس، وفي زمن المقريزي كان يعرف بخط بئر الوطاويط، ومكانه الآن يقع بالقرب من باب زويلة.
وفي الخطط أيضا يقص المقريزي واقعة جرت في عصر أحمد بن طولون، ينقلها عن المؤرخ السابق له القضاعي... اذ حدث في أحد الأيام أن ركب أحمد بن طولون، ومر بمسجد يقع خارج القاهرة اسمه مسجد الاقدام كان قريبا من القرافة الكبرى وتقدم عسكره وقد كده العطش، وكان في المسجد خياط مقيم، فقال: يا خياط... أعندك ماء؟، فقال: نعم، وأخرج له كوزا فيه ماء، وقال اشرب ولا تمد، يعني لا تشرب كثيرا، فتبسم أحمد بن طولون وشرب ومد حتى شرب أكثره، ثم ناوله الكوز.
وقال: يا فتى سقيتنا وقلت لا تمد.
فقال: نعم أعزك الله، موضعنا هنا منقطع وانما أخيط جمعتي حتى أجمع ثمن راوية «ثمن الماء».
فقال ابن طولون: وهل الماء عندكم هنا معوز؟
فقال الخياط: نعم.
فلما عاد أحمد بن طولون الى قصره أرسل في طلب الخياط، فباتوا به اليه، فلما رآه، قال: سر مع المهندسين حتى يخطوا عندك موضع سقاية ويجروا الماء، وهذه ألف دينار خذها وابدأ الانفاق، وبشرني ساعة يجري الماء وبدأ العمل على الفور.
وعندما جرى الماء جاءه الخياط مبشرا فخلع عليه وحمله واشترى له دارا يسكنها وأجرى عليه الرزق، وحتى عصر المقريزي كانت هذه المنشأة تعرف باسم قناطر ابن طولون، وبعد أن فرغ أحمد بن طولون من بناء هذه السقاية بلغه أن قوما لا يستحلون شرب مائها.
قال الفقيه محمد بن عبدالله بن عبدالحكم: كنت ليلة في داري، اذ طرقت بخادم من خدام أحمد بن وطولون، فقال لي الأمير يدعوك، فركبت مذعورا، مرعوبا فعدل بي عن الطريق، فقلت اين تذهب بي؟ فقال الى الصحراء والأمير فيها، فأيقنت بالهلاك وقلت للخادم: الله، الله فيّ فاني شيخ كبير ضعيف مسن فتدري ما يراد مني فارحمني، فقال لي احذر أن يكون له في السقاية قول، سرت معه واذا بالمشاعل في الصحراء وأحمد بن طولون راكب على باب السقاية وبين يديه الشمع، فنزلت وسلمت عليه فلم يرد عليّ.
فقلت أيها الأمير ان الرسول أعنتني وكدني وقد عطشت فيأذن لي الأمير في الشرب فأراد الغلمان أن يسقوني فقلت: أنا آخذ لنفسي فاستقيت وهو يراني وشربت وازددت في الشرب حتى كدت أنشق.
ثم قلت أيها الأمير سقاك الله من أنهار الجنة فلقد أرويت وأغنيت ولا أدرى ما أصف طيب الماء في حلاوته وبرده، أم صفاءه أم طيب رائحة السقاية.
قال فنظر الي وقال: أريدك لأمر وليس هذا وقته فاصرفوه، فصرفت، فقال لي الخادم: أصبت، فقلت: أحسن الله جزاءك فلولاك لهلكت.
وعندما مات ابن طولون أنشد عمرو بن الكندي أبياتا يرثيه فيها ويرثي دولته، خصص بعضها لهذه البئر...
وعين معين الشرب عين زكية... وعين اجاج للرواة وللطهر
كأن وفود النيل في جنباتها
تروح وتغدو بين مد الى جذر
فأرك بها مستنبطا لمعينها
من الأرض من بطن عميق الى ظهر
بناء لو أن الجن جاء بمثله
لقيل لقد جاءت بمستفظع نكر
يمر على أرض المغافر كلها
وشعبان والأحور والحي من بشر
قبائل لا نوء السحاب يمدها
ولا النيل يرويها ولا جدول يجري
كذلك يذكر المقريزي عددا من الآبار والأحواض أنشئت قبل العصر المملوكي، منها حوض القرافة الذي أنشأته السيدة ست الملك، عمة الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، وحوض آخر بجوار قصر القرافة بنته أم الخليفة الظاهر لاعزاز دين الله، وحوض بداخل قصر أبي المعلوم بناه المحتسب، وحوض آخر بناء الحاجب لؤلؤ، ومن الآبار بئر أبي سلامة أو بئر الغنم كما كانت تعرف، وبئر الدرج التي أمر بحفرها الحاكم بأمر الله.
وعندما جدد الحاكم بأمر الله الأزهر، وأوقف عليه، كان من بين المصروفات المخصصة:
«دينار واحد وربع دينار ومن ذلك الثمن أزيار فخار تنصب على المصنع ويصب فيها الماء مع أجرة حملها ثلاثة دنانير».
أما مسجد الحاكم نفسه، فقد حفر فيه صهريج بصحن الجامع ليملأ في كل سنة من ماء النيل ويسبل منه الماء في كل يوم ويستقي منه الناس يوم الجمعة، ويذكر المقريزي أنه من بين التطورات التي حدثت في الجامع العتيق، جامع عمرو بن العاص.
«ولما كان في شهور سنة ست وتسعين وستمئة، اشترى الصاحب تاج الدين دارا بسوق الأكفانيين وهدمها وجعل منها سقاية كبيرة ورفعها الى محاذاة سطح الجامع وجعل لها ممشى يتوصل اليه من سطح الجامع وعمل في أعلاها أربعة بيوت يرتفق بهم في الخلاء ومكان برسم أزيار الماء العذب وهدم سقاية الغرفة التي تحت المئذنة المعروفة بالمنظرة».
لا يحدثنا المقريزي اذاً عن الأسبلة كما نعرفها من خلال الشكل الذي وصلت الينا قبل العصر المملوكي، انما كان الماء يقدم اما من خلال آبار، أو سقايات، أو يخزن في صهاريج كبيرة، وقد استمر بناء الصهاريج في المساجد والخانقاوات، وكانت هي الأساس الذي قامت عليه الأسبلة فيما بعد، وكان بعض الصهاريج يقام على أعمدة حاملة لقباب ضحلة ولها سلم حجري ملتف، كما يوجد في خانقاه الأشراف بارسباي بالجبانة.
والبعض الآخر كان له سقف مسطح يرتكز على أكتاف جانبية ويتميز بالاستطالة وله سلم حجري جانبي، أما أرضية الصهريج نفسه فكانت ملساء، خالية من أي نتوء، على أي حال أصبح الصهريج فيما بعد هو أول جزء في أي سبيل أقيم في المدينة.