كرة القدم لعبة شعبية تشغل عقول وقلوب من يتابعها في العالم، ومحبو الكرة لا حصر لهم، وفي مصر كرة القدم تمثل أكثر من أنها لعبة شعبية، فهي متنفس سياسي ونفسي واجتماعي، والدولة تهتم بها جيداً.
وأخيراً انشغل الرأي العام في مصر بفوز مصر على إيطاليا في كرة القدم، من صحافة إلى قنوات فضائية حتى السياسيين قبل الرياضيين، وكلهم بلسان واحد يصيح فرحاً: لقد قهرنا الطليان في معركة جوهانسبرج. وكأنها معركة العلمين لكن ليس بين مونتجمري وروميل، بل بين حسن شحاتة وليبي.
وتعلقت قلوب المصريين بالمعركة الأخيرة، والبعض قلل منها قائلاً انها خطوة أخيرة وليست معركة مع فريق المنتخب الأميركي. ولكن «تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن دائماً». وعقب المباراة الثانية للمنتخب المصري مع نظيره الأميركي، التي انهزم فيها المنتخب المصري بثلاثة أهداف، انقلبت الفرحة إلى الضد، فعاشت قاهرة المعز أحزاناً قومية، ونقداً وتشكيكاً وكأنها هزيمة 67، ولابد أن يستقيل المشير عبدالحكيم عامر أو ينتحر، أو يُنحر «حسن شحاتة» ولابد من محاكمة كل قيادة النكسة.
ثم كانت المفاجأة عندما خرج خنجر مسموم وطُعن به منتخب الكرة المصري في ظهره، وكان عنوان الخنجر وجود فتيات عاهرات بصحبة اللاعبين في غرفهم في الفندق. وانقلب نقد الهزيمة إلى الحديث عن سمعة مصر التي شُوهت في جنوب افريقيا. وانشغلت مصر بالدفاع عن سمعتها التي شوهت في قضية ملفقة واضحة الافتراء تماماً. نعم فهذا الجيل من اللاعبين يتميز عن غيره بالاستقامة وإن كان لا يمنع وجود مخالفات وأخطاء من بعضهم لكنها لا ترقى إلى هذا الاتهام.
لا أهتم كثيراً بالكرة، لكن الذي استوقفني هو أن الكثير من المنابر الإعلامية تفرغت للموضوع وعلا صوت البعض فيها بالحديث عن سمعة مصر، مع أنه يوجد كثير من القضايا الخطيرة التي تتعلق بسمعة مصر لم يهتم بها الإعلام بالقدر ذاته. والشاهد أن الدولة تدخلت بكل قوة وقطعت الألسنة وذهب ممثلوها لاستقبال الفريق بالمطار، وأشادت بمستواه الذي لا تقلل منه الهزيمة في مباراة.
العجيب أن المصريين أمامهم قضايا أهم وأخطر، فمنذ أيام كانت قضية القمح الفاسد، وهي قضية أمن قومي حقيقي للمصريين لأنهم شعب يعتمد على الخبز في طعامه. وهناك قضايا كثيرة مهمة أخرى... من الإسكان، إلى المواصلات والزحام، إلى التنمية، إلى انتشار الفساد والرشوة، وانتشار البطالة... تلك القنبلة الموقوتة.
ثم ان المصريين قادمون على مواقع سياسية مهمة أشبه بالحربية في انتخابات البرلمان والشورى وانتخابات الرئاسة، ومع ذلك كله لا يهتمون بهذا كله قدر اهتمامهم بمباراة كرة. وأعتقد أن هذا الشعور الذي خيم على المصريين موجود عند شعوب عربية كثيرة عندما تحقق انتصارات كروية عالمية وتطمع في المزيد، ثم تحدث النكسة، وقد لوحظ ذلك في توقيت متزامن عند الشعب السعودي عندما تعادل منتخبهم مع المنتخب الكوري في تصفيات كأس العالم.
الحقيقة أنه لو حدث أن عالماً مصرياً أو عربياً ابتكر اختراعاً عالمياً كبيراً وتآمر عليه الغرب مثلاً لسرقته فلن تجد من يحزن لأجله مثل الحزن عند الهزيمة الكروية.
الواضح أن كرة القدم أصبحت في المرتبة الأولى عند الشعب المصري والعربي وذلك قبل قضايا مثل العدل والحرية، ما جعل جميع الحكام يهتمون بها كوسيلة تقرب من الشعب، وهذا كله يؤكد أن أولويات مشاعرنا ضاعت في ظل ضياع الكثير من معالم هويتنا وقوتنا كأمة عربية ذات حضارة ومكانة سابقاً، وأصبحت الكرة المصنوعة من بالونة منفوخة وجلد سميك هي من أولويات القضايا القومية!
ممدوح إسماعيل
محامٍ وكاتب
[email protected]