من أجمل ما كتب الدكتور سليمان العسكري رئيس تحرير مجلة «العربي» في افتتاحية عدد شهر فبراير لهذا العام بعنوان: «تنمية البشر... قبل الحجر» قال فيها:
«حين نتأمل مسار التنمية الراهن في منطقة الخليج العربي خصوصاً، والبلاد العربية بشكل عام، لا بد ان نتوقف امام ظاهرة لافتة، تتمثل في شيوع العديد من مظاهر الحداثة الشكلية التي تتجلى في اساليب وطرز العمارة الأجنبية، وشبكات الطرق الحديثة، وفي التسابق في تشييد الأبراج الشاهقة، والمباني الضخمة، التي تقام على مساحات شاسعة، تضم المجمعات التجارية، المنقولة عن النمط الأميركي، والتي اصبحت معلماً من معالم الاستهلاك الشره».
«كما تتجلى مظاهر الحداثة في تشييد الجزر الاصطناعية في مياه الخليج لاستقطاب ساكنين جدد من خارج المنطقة وجذب السياح، بينما اذا ما تأملنا واقع التنمية البشرية ومسارها، وجودة ما يحصل عليه المواطن الخليجي من منتجات التنمية الثقافية والتعليمية والأكاديمية والإعلامية فإن الصورة لن تكون بالاهتمام والسرعة ذاتها».
«كما نرى التسابق لإنشاء الجامعات والمعاهد الخاصة، قبل ان نسعى لتطوير المستوى الأكاديمي بالجامعات الوطنية المهملة، التي تحول أغلبها إلى الاهتمام فقط بمنح الشهادات وإقامة المهرجانات لتوزيع تلك الشهادات. كما نرى في طبيعة المشهد العام لتخطيط المدن الخليجية، التي استوردت النموذج الأميركي، بمبانيه ومنشآته حداثية التصميم، وأبراجه الشاهقة، التي اطلق عليها «ناطحات السحاب»، بواجهاتها الزجاجية التي لا تتناسب والمناخ في دولنا. وفي المقابل دمرت المنطقة كل ما كان لديها من شواهد الحياة التي عاشها الأجداد وتاريخهم، ولم تبق أثراً للأبنية والأسواق والحوانيت، والدور، والمباني التقليدية، والدروب القديمة التي كانت معلماً من معالم الحياة».
«سنجد تراجعاً كبيراً في تحقق الشق الخاص بمواكبة علوم العصر وتقنيات التكنولوجيا، وإهمال النظر إلى ضرورة إنشاء المراكز البحثية العلمية، وما ادى اليه من تأثير على عدد العلماء الذين افرزهم النظام التعليمي الأكاديمي، ومراكز البحث العلمي، جنباً إلى جنب مع الاهمال الفادح في بناء المكتبات العامة، والخاصة، والمتاحف، ودور النشر، وغيرها من المنشآت والمؤسسات الثقافية، التي تعكس مدى اهتمام المجتمع والدولة بالتنمية الثقافية للإنسان».
لا شك ان الدكتور العسكري قد أصاب كبد الحقيقة بتشخيصه لواقع التنمية في بلدان الخليج، والمشكلة هي ان بعض حكام الخليج يتباهون أمام العالم بأنهم قد وصلوا إلى نهاية التاريخ بتطويرهم لبلدانهم وجعلها قبلة للعالم واستقطابهم للسياح من كل مكان بينما نجد بأن كثيراً مما شيدوه لا يتعدى المظاهر السطحية التي ذكرها الدكتور العسكري، وعندما جاءت الهزة الاقتصادية العالمية كانت بلداننا من أكبر المتضررين، وهجر الناس تلك البنايات الضخمة والجزر الجميلة وانهارت الأسواق، لاشك ان تنمية البشر هي أساس الحضارة والتقدم، وهذا لا يتحقق الا بإرساء قواعد العدالة والحرية والمساواة بين الناس وحق الشعوب في ادارة شؤون أنفسها، ثم ان يتم التركيز على الاهتمام بعوامل الحضارة الحقيقية من تشجيع للعلم والبحث العلمي والتكنولوجيا والتصنيع والتنمية الثقافية للإنسان مع الاهتمام الكبير بتراث المجتمع وكل ما يربطنا بالآباء الذين هم أساس نهضتنا.
د. وائل الحساوي
[email protected]